
ست دقائق إلــــى الشتــــاء
لا تزال الأسلحة النووية تشكّل أحد أعظم التهديدات الكامنة في عالم اليوم، في ظل سباق تسلّح صامت وتصعيد سياسي متقلب. ورغم مرور عقود على نهاية الحرب الباردة، يبقى احتمال نشوب نزاع نووي قائماً في مناطق التوتر حول العالم. ومع التطورات التقنية وتعقيدات النظام الدولي، يبرز سؤال ملحّ حول قدرة البشرية على تجاوز هذا الخطر، وضرورة استعادة الوعي الجمعي تجاه قضية لطالما جرى تجاهلها في الخطاب العام.
صدر حديثاً عن دار بلومزبري سيغما كتاب «ست دقائق إلى الشتاء: الحرب النووية وكيفية تجنّبها» للكاتب البريطاني مارك ليناس في 304 صفحات، وهو عمل تحذيري يقدّم رؤية دقيقة ومقلقة حول التهديد النووي الذي يواجه العالم اليوم. يذكّر ليناس بأن البشرية تقف حالياً على حافة صراع نووي محتمل لم تشهده منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، في ظل وجود أكثر من 12 ألف رأس نووي في ترسانات عدد من الدول الكبرى
الخطر النووي بين الحاضر والمستقبل
يؤكد ليناس أن خطر الحرب النووية يفوق في خطورته تهديد تغيّر المناخ، إذ إن اندلاع مواجهة نووية واسعة يمكن أن يدمّر الحضارة الإنسانية خلال ساعات معدودة. ويقدّر أن تبادلاً صاروخياً بين القوى النووية سيُدخل الكوكب في حالة ظلام شبه تام قد تستمر لأشهر، يعقبها شتاء نووي عالمي قد يمتد لعقد كامل، ما يؤدي إلى انهيار الزراعة، ويمهد لمجاعة كبرى قد تودي بحياة معظم سكان الأرض.
يشير الكاتب إلى أن التهديد النووي يحظى اليوم باهتمام ضئيل في الخطاب العام، مقارنة بقضايا أخرى مثل المناخ، رغم أنه يمثل تهديداً أكثر آنية وبشاعة. في ظل غياب الحراك الشعبي، وعدم وجود أصوات شبيهة بتلك التي قادت حملات مناخية عالمية، يرى ليناس أن البشرية تسير نحو كارثة محتملة دون وعي كافٍ، وأن تجاهل هذا الخطر ليس حلاً.
يعرض الكتاب مسارات عملية يمكن أن تسهم في تقليل مستوى التهديد النووي، مثل إخراج الأسلحة من حالة الاستعداد القصوى، ووضع حد نهائي لهذه الترسانات. ويلفت إلى أن التجربة في قضية المناخ أثبتت أن تحركاً عالمياً واسع النطاق قد يكون ممكناً وفعّالاً.
يشير المؤلف قائلاً في هذا السياق إلى أن «الأسلحة النووية اخترعت عام 1945، وقد اجتزنا حتى الآن 75 عاماً من دون استخدامها في صراع مباشر. وفقاً للحسابات السابقة، فهذا يعني أننا تجاوزنا بالفعل فترة من الزمن كان يُفترض فيها، إحصائياً، أن نشهد كارثة نووية شاملة قبل عام 2045. أشار الفيلسوف كارل لوندرغن إلى أن احتمالية البقاء على قيد الحياة في هذا السياق – في ظل بيئة جيوسياسية مشابهة للحرب الباردة – لا تزيد على الثلث. ومع مضيّ 74 عاماً، من المرجّح أننا نعيش زمناً مستعاراً. لكن الظروف الحالية قد لا تكون في صالحنا. العديد من التوترات الجيوسياسية الراهنة، مثل النزاع بين الصين وتايوان، والهند وباكستان حول كشمير، أو بين روسيا وحلف الناتو على خلفية أوكرانيا، أو حول كوريا الشمالية، تحمل في طيّاتها خطراً متزايداً بالتصعيد إلى نزاع نووي. ومن المثير للقلق أن فترات التوتر النووي السابقة، مثل أزمة الصواريخ الكوبية، شهدت نقاطاً حرجة اقتربت فيها القرارات من شفا الكارثة (كما في اليوم الذي صرّح فيه الرئيس كينيدي بأن العالم كان على بعد عدة ساعات من الدمار). ربما تكون الأحداث الراهنة مثل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وما صاحبه من تهديدات باستخدام الأسلحة النووية، قد رفعت هذا الخطر إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود. لقد عادت القنابل النووية إلى الواجهة من جديد. صحيح أن هذا الخطر كان سائداً في خمسينات وثمانينات القرن العشرين، ثم هدأ مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. لكن القنابل لم تختفِ قط، بل توقفنا عن التفكير بها. واليوم آن الأوان لنُعيد التفكير مجدداً. يجب علينا أن نتخلص من القنبلة، قبل أن تتخلص هي منا».
رؤية تحذيرية
يضيف الكتاب صوتاً جديداً إلى النقاش الدولي حول مستقبل الأسلحة النووية وضرورة تحرّك عالمي عاجل لتجنّب السيناريو الأسوأ. يبدأ بمقدمة تحمل عنواناً لافتاً «أكثر إشراقاً من ألف شمس»، يستعرض فيها صورة سينمائية لانفجار نووي محتمل وآثاره الكارثية. يقدّم مارك ليناس في افتتاحية كتابه صورة مرعبة ليوم اعتيادي يبدأ في نيويورك بلا أي إنذار. الناس ينطلقون إلى أعمالهم، الأطفال إلى مدارسهم، والحياة تسير بهدوء. فجأة، يظهر وميض معدني قرب الشمس، لا تعرف فتاة صغيرة تشاهده أنه رأس صاروخ نووي على وشك الانفجار خلال ثوانٍ. لم تكد الفتيات يعبرن منتصف الشارع حتى انفجرت القنبلة، لتتحول المدينة إلى كتلة من اللهب.
في لحظات، يغمر وميض يفوق ضوء الشمس آلاف المرات سماء المدينة، يعمي العيون ويطلق كرة نارية بحجم جزيرة مانهاتن، تلتهم كل ما حولها. الأجساد تتبخر قرب مركز الانفجار، والناجون يحترقون أو يسقطون تحت ركام الأبنية المنهارة. تتصاعد غيمة دخان كثيف، يليها مطر أسود مشع يمتد لعشرات الكيلومترات. في شوارع نيويورك المحطمة، تعمّ الفوضى: لا إنقاذ، ولا مفرّ، ولا خدمات طوارئ قادرة على التعامل مع ملايين الجرحى. ومع مرور الساعات، تبدأ أعراض التسمم الإشعاعي في الظهور، فيما يُقدَّر عدد القتلى بمليوني إنسان، في مأساة لن يُعرف حجمها الحقيقي أبداً.
في الفصل الأول «لماذا ينبغي أن نبدأ بالقلق»، يطرح المؤلف الأسباب المُلِحّة التي تجعل من التهديد النووي واقعاً يجب أن يُؤخذ بجدّية. ويعلق فيه بقوله «القصة في المقدّمة مرعبة، لكنها لن تحدث... أليس كذلك؟ معظمنا يخشى، بدرجة ما، احتمال وقوع حرب نووية، لكننا نفضّل أن نصدّق أننا لن نشهد مثل هذا الحدث في حياتنا. هذا اعتقاد خاطئ. تقدَّر احتمالية وقوع صراع حراري نووي يدمّر الحضارة بحوالي 1% سنوياً. بالطبع، هذا مجرّد تقدير تقريبي، والاحتمال يتغير باستمرار مع صعود وهبوط التوترات بين القوى العظمى. مع ذلك، يبدو هذا الرقم معقولاً إذا أخذنا في الاعتبار سلسلة الحوادث القريبة من الكارثة في الماضي، من أزمة الصواريخ الكوبية إلى الأعطال التقنية. حذّر مارتن هيلمان (أستاذ فخري في جامعة ستانفورد) في عام 2021 من أن تراكم هذا الخطر السنوي، ولو كان بسيطاً، يعني أن طفلاً يولد اليوم ستكون لديه احتمالات أقل من واحد إلى عشرة ليعيش عمره الطبيعي دون أن يشهد تدمير الحضارة في حرب نووية».
يليه الفصل الثاني «الشتاء» الذي يتناول فكرة الشتاء النووي وما يمكن أن يجرّه من تغيّرات مناخية مفجعة. أما الفصل الثالث «حرائق الغابات والحرب» فيربط بين الكوارث البيئية المتزايدة وخطر النزاعات المسلحة. وفي «فصول شتاء بركانية»، يستعرض ليناس نماذج تاريخية لأثر الغبار في الغلاف الجوي وكيف يمكن أن يكون مشابهاً لآثار انفجار نووي.
ينتقل الكتاب في الفصل الخامس إلى «نهاية العصر الطباشيري»، مقدّماً تأملات في الانقراضات الجماعية السابقة كمرآة محتملة لمستقبل البشرية. يوسّع الفصل السادس «الخطر الوجودي» النقاش إلى الأبعاد الفلسفية والأخلاقية للتهديد النووي. ثم يأتي الفصل السابع «النجاة بأعجوبة»، حيث يعرض قصصاً واقعية عن الكوارث النووية التي كادت تقع وتمّ تجنّبها بشقّ الأنفس. ويناقش في الثامن «التلوّث الإشعاعي»، الآثار البيئية طويلة الأمد لأي تفجير نووي. ويُختتم السرد بفصل «حظر القنبلة»، الذي يرسم رؤى للجهود الدولية الممكنة لنزع السلاح النووي، تليه خاتمة بعنوان «أزهار الكرز في هيروشيما» تمنح بُعداً إنسانياً للتذكير بالمأساة التي عاشها الناجون. بهذه البنية، يوفّر الكتاب منظوراً شاملاً ومتدرجاً لفهم الخطر النووي، من أبعاده التقنية إلى تداعياته الإنسانية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ 3 ساعات
- البيان
شرطة دبي تنظم الندوة الاستراتيجية الأولى للمرونة الأمنية
نظّمت أكاديمية شرطة دبي، الندوة الاستراتيجية الأولى للمرونة الأمنية، تحت عنوان «المرونة الأمنية... الصمود الاستراتيجي والتكيّف المؤسسي في عصر اللايقين»، بمشاركة نخبة من الخبراء والمتخصصين في مجالات الأمن وإدارة الأزمات والمرونة المؤسسية، وبحضور عدد من القيادات والضباط وطلبة الأكاديمية. واستضافت الندوة التي أقيمت عبر تقنية الاتصال المرئي (عن بعد)، العميد الركن الدكتور إبراهيم الزعابي، أستاذ الأزمات الأمنية وعميد كلية شرطة أبوظبي، والعقيد الدكتور الخبير حمدان الغسية، مدير مركز استشراف المستقبل في شرطة دبي، والمستشار الدكتور سعود القرعان، من مركز دبي للمرونة، والدكتور شادي منصور، أستاذ العلوم السياسية في كلية الدفاع الوطني بوزارة الدفاع، في حين أدار الندوة، الأستاذ الدكتور إيهاب الحجاوي، رئيس قسم إدارة الأزمات الأمنية، الذي أكد الحاجة لفهم أعمق لمفاهيم الصمود المؤسسي والمرونة الأمنية كمرتكزات للاستجابة الفعالة في ظل المتغيرات غير المتوقعة. واستهل الندوة العميد الركن الدكتور إبراهيم الزعابي، بمحور حمل عنوان «النقاط الساخنة وتحليل المخاطر المستقبلية»، حيث قدّم تعريفاً وافياً لمفهوم النقاط الساخنة، موضحاً أهميتها في التنبؤ بالكوارث وتطوير آليات الاستجابة المبكرة. كما أشار إلى دور التكنولوجيا الحديثة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، في تحليل السياسات المرتبطة بإدارة الكوارث واستخلاص الدروس من التجارب العالمية.


صحيفة الخليج
منذ 4 ساعات
- صحيفة الخليج
لويس ألفاريز.. فيزيائي مؤثر في سياسة الردع النووي الأمريكي
لعب الفيزيائيون دوراً محورياً في رسم معالم القوة والردع، إذ تحوّلت الاكتشافات العلمية إلى عناصر حاسمة في ميزان القوى الدولية. من بين هؤلاء العلماء، برز لويس ألفاريز، بوصفه شخصية جمعت بين الابتكار العلمي والارتباط العميق بمؤسسات صنع القرار الأمريكي، في مرحلة كان فيها الخط الفاصل بين البحث الأكاديمي والتطبيقات العسكرية يزداد ضبابية. صدر حديثاً عن دار «دبليو. دبليو. نورتون آند كومباني» كتاب «تصادمات: رحلة فيزيائي من هيروشيما إلى انقراض الديناصورات»، وهو سيرة علمية سياسية ممتدة للعالم الأمريكي الحائز جائزة نوبل لويس دبليو ألفاريز، كتبها المؤرخ والروائي الأمريكي أليك نيفالا-لي. يقدم الكتاب رؤية معمّقة لدور ألفاريز في تطوير التكنولوجيا العسكرية الأمريكية، ليس فقط بوصفه أحد علماء الفيزياء البارزين في مشروع مانهاتن، بل كأحد الأصوات المؤثرة في سياسات الردع النووي خلال الحرب الباردة، وفي رسم معالم العلاقة بين العلم والسلطة في القرن العشرين. يسير نيفالا-لي في مسار زمني تحليلي لمراحل حياة ألفاريز، متوقفاً عند مشاركته الميدانية في بعثة قصف هيروشيما بصفته المراقب العلمي الأول، وهي لحظة فارقة في التاريخ العلمي والسياسي معاً. لم تكن تلك الحادثة ذروة انخراطه في صناعة القرار العسكري، بل شكّلت بداية مسيرة طويلة وملتبسة في خدمة المشروع النووي الأمريكي. في العقود التالية، واصل ألفاريز العمل في أبحاث عسكرية رفيعة المستوى، لا سيما في مجالات فيزياء الجسيمات، وتطوير أجهزة الاستشعار المتقدمة، وتقنيات التعقّب؛ جميعها أدوات عزّزت من قدرات الردع لدى الولايات المتحدة، ورسّخت مبدأ «التوازن النووي» الذي سيطر على الاستراتيجية الأمريكية طوال عقود الحرب الباردة. كما يعرض الكتاب جانباً سياسياً حسّاساً في سيرة ألفاريز: شهادته المثيرة للجدل عام 1954 أمام «لجنة الطاقة الذرية»، والتي أسهمت في سحب التصريح الأمني من الفيزيائي الشهير روبرت أوبنهايمر، أحد آباء القنبلة النووية. هذا الموقف، الذي ظل محل انقسام في الأوساط العلمية والسياسية، كشف عن الوجه الآخر للعلاقة بين العلماء والدولة، حيث يتحوّل الفيزيائي إلى شاهد في معركة سياسية تتجاوز حدود المختبر. إلى جانب ذلك، يضيء نيفالا-لي على جوانب أخرى من شخصية ألفاريز، كعالم مجرّب لم يكتفِ بفيزياء الجسيمات، حيث أحدث ثورة عبر تطوير حجرة الفقاعات الهيدروجينية، بل خاض مغامرات بحثية متنوعة، من بينها دراساته المثيرة للجدل في قضية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وتحقيقاته في فرضية اصطدام كويكب بالأرض وانقراض الديناصورات، التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية. يوثّق الكتاب المسار العلمي لشخصية ألفاريز، ويفكّك البُعد السياسي العميق لدوره كفيزيائي مؤثر في مسار السياسة الأمريكية الدفاعية. يظهر في الكتاب كيف أن العلاقة بين الاكتشافات العلمية وصناعة القرار العسكري كانت، وما زالت، محفوفة بالتعقيد، وأن العلماء الذين يصنعون أدوات الدمار الكبرى، غالباً ما يجدون أنفسهم في قلب صراعات سياسية وأخلاقية. يتّبع الكتاب بناءً زمنياً واضحاً يعكس التحولات الكبرى في علاقة ألفاريز بالعلم والسياسة. ففي القسم الأول (1911–1943)، المعنون «تجارب»، يرصد نيفالا-لي مسيرة التكوين العلمي المبكر للعالِم داخل بيئة أكاديمية، كانت تتجه تدريجياً نحو عسكرة الفيزياء، حيث بدأ يتبلور وعي ألفاريز بدور العلم في خدمة الدولة. ينتقل السرد في القسم الثاني (1943–1963)، «إتقان تقني»، إلى لحظة الانخراط الكامل في مشروع مانهاتن وتطوير القنبلة النووية، متتبعاً كيف أصبح ألفاريز لاحقاً، عنصراً فاعلاً في تعزيز قدرات الردع الأمريكية خلال عقود الحرب الباردة، خصوصاً في تطوير أدوات الاستشعار والتقنيات المساندة للاستراتيجية النووية. أما القسم الثالث (1963–1988)، الموسوم بـ«رجل الكوارث»، فيستكشف تحول موقع ألفاريز إلى مستوى أكثر قرباً من دوائر صناعة القرار في واشنطن، في سياق اتسم بتعقيد العلاقة بين الاكتشافات العلمية وتوظيفها في خدمة الأجندات السياسية، من دون أن يغفل الكاتب ما قدمه العالِم في مجالات بحثية كونية، ظلّت تلقي بظلالها على مسيرته في سنواته الأخيرة. يقع الكتاب في 352 صفحة، ويشكّل إضافة نوعية للمكتبة التاريخية حول العلاقة المتشابكة بين تطور العلوم العسكرية والتحولات الكبرى في السياسة الدولية خلال القرن العشرين.


صحيفة الخليج
منذ 4 ساعات
- صحيفة الخليج
ست دقائق إلــــى الشتــــاء
لا تزال الأسلحة النووية تشكّل أحد أعظم التهديدات الكامنة في عالم اليوم، في ظل سباق تسلّح صامت وتصعيد سياسي متقلب. ورغم مرور عقود على نهاية الحرب الباردة، يبقى احتمال نشوب نزاع نووي قائماً في مناطق التوتر حول العالم. ومع التطورات التقنية وتعقيدات النظام الدولي، يبرز سؤال ملحّ حول قدرة البشرية على تجاوز هذا الخطر، وضرورة استعادة الوعي الجمعي تجاه قضية لطالما جرى تجاهلها في الخطاب العام. صدر حديثاً عن دار بلومزبري سيغما كتاب «ست دقائق إلى الشتاء: الحرب النووية وكيفية تجنّبها» للكاتب البريطاني مارك ليناس في 304 صفحات، وهو عمل تحذيري يقدّم رؤية دقيقة ومقلقة حول التهديد النووي الذي يواجه العالم اليوم. يذكّر ليناس بأن البشرية تقف حالياً على حافة صراع نووي محتمل لم تشهده منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، في ظل وجود أكثر من 12 ألف رأس نووي في ترسانات عدد من الدول الكبرى الخطر النووي بين الحاضر والمستقبل يؤكد ليناس أن خطر الحرب النووية يفوق في خطورته تهديد تغيّر المناخ، إذ إن اندلاع مواجهة نووية واسعة يمكن أن يدمّر الحضارة الإنسانية خلال ساعات معدودة. ويقدّر أن تبادلاً صاروخياً بين القوى النووية سيُدخل الكوكب في حالة ظلام شبه تام قد تستمر لأشهر، يعقبها شتاء نووي عالمي قد يمتد لعقد كامل، ما يؤدي إلى انهيار الزراعة، ويمهد لمجاعة كبرى قد تودي بحياة معظم سكان الأرض. يشير الكاتب إلى أن التهديد النووي يحظى اليوم باهتمام ضئيل في الخطاب العام، مقارنة بقضايا أخرى مثل المناخ، رغم أنه يمثل تهديداً أكثر آنية وبشاعة. في ظل غياب الحراك الشعبي، وعدم وجود أصوات شبيهة بتلك التي قادت حملات مناخية عالمية، يرى ليناس أن البشرية تسير نحو كارثة محتملة دون وعي كافٍ، وأن تجاهل هذا الخطر ليس حلاً. يعرض الكتاب مسارات عملية يمكن أن تسهم في تقليل مستوى التهديد النووي، مثل إخراج الأسلحة من حالة الاستعداد القصوى، ووضع حد نهائي لهذه الترسانات. ويلفت إلى أن التجربة في قضية المناخ أثبتت أن تحركاً عالمياً واسع النطاق قد يكون ممكناً وفعّالاً. يشير المؤلف قائلاً في هذا السياق إلى أن «الأسلحة النووية اخترعت عام 1945، وقد اجتزنا حتى الآن 75 عاماً من دون استخدامها في صراع مباشر. وفقاً للحسابات السابقة، فهذا يعني أننا تجاوزنا بالفعل فترة من الزمن كان يُفترض فيها، إحصائياً، أن نشهد كارثة نووية شاملة قبل عام 2045. أشار الفيلسوف كارل لوندرغن إلى أن احتمالية البقاء على قيد الحياة في هذا السياق – في ظل بيئة جيوسياسية مشابهة للحرب الباردة – لا تزيد على الثلث. ومع مضيّ 74 عاماً، من المرجّح أننا نعيش زمناً مستعاراً. لكن الظروف الحالية قد لا تكون في صالحنا. العديد من التوترات الجيوسياسية الراهنة، مثل النزاع بين الصين وتايوان، والهند وباكستان حول كشمير، أو بين روسيا وحلف الناتو على خلفية أوكرانيا، أو حول كوريا الشمالية، تحمل في طيّاتها خطراً متزايداً بالتصعيد إلى نزاع نووي. ومن المثير للقلق أن فترات التوتر النووي السابقة، مثل أزمة الصواريخ الكوبية، شهدت نقاطاً حرجة اقتربت فيها القرارات من شفا الكارثة (كما في اليوم الذي صرّح فيه الرئيس كينيدي بأن العالم كان على بعد عدة ساعات من الدمار). ربما تكون الأحداث الراهنة مثل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وما صاحبه من تهديدات باستخدام الأسلحة النووية، قد رفعت هذا الخطر إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود. لقد عادت القنابل النووية إلى الواجهة من جديد. صحيح أن هذا الخطر كان سائداً في خمسينات وثمانينات القرن العشرين، ثم هدأ مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. لكن القنابل لم تختفِ قط، بل توقفنا عن التفكير بها. واليوم آن الأوان لنُعيد التفكير مجدداً. يجب علينا أن نتخلص من القنبلة، قبل أن تتخلص هي منا». رؤية تحذيرية يضيف الكتاب صوتاً جديداً إلى النقاش الدولي حول مستقبل الأسلحة النووية وضرورة تحرّك عالمي عاجل لتجنّب السيناريو الأسوأ. يبدأ بمقدمة تحمل عنواناً لافتاً «أكثر إشراقاً من ألف شمس»، يستعرض فيها صورة سينمائية لانفجار نووي محتمل وآثاره الكارثية. يقدّم مارك ليناس في افتتاحية كتابه صورة مرعبة ليوم اعتيادي يبدأ في نيويورك بلا أي إنذار. الناس ينطلقون إلى أعمالهم، الأطفال إلى مدارسهم، والحياة تسير بهدوء. فجأة، يظهر وميض معدني قرب الشمس، لا تعرف فتاة صغيرة تشاهده أنه رأس صاروخ نووي على وشك الانفجار خلال ثوانٍ. لم تكد الفتيات يعبرن منتصف الشارع حتى انفجرت القنبلة، لتتحول المدينة إلى كتلة من اللهب. في لحظات، يغمر وميض يفوق ضوء الشمس آلاف المرات سماء المدينة، يعمي العيون ويطلق كرة نارية بحجم جزيرة مانهاتن، تلتهم كل ما حولها. الأجساد تتبخر قرب مركز الانفجار، والناجون يحترقون أو يسقطون تحت ركام الأبنية المنهارة. تتصاعد غيمة دخان كثيف، يليها مطر أسود مشع يمتد لعشرات الكيلومترات. في شوارع نيويورك المحطمة، تعمّ الفوضى: لا إنقاذ، ولا مفرّ، ولا خدمات طوارئ قادرة على التعامل مع ملايين الجرحى. ومع مرور الساعات، تبدأ أعراض التسمم الإشعاعي في الظهور، فيما يُقدَّر عدد القتلى بمليوني إنسان، في مأساة لن يُعرف حجمها الحقيقي أبداً. في الفصل الأول «لماذا ينبغي أن نبدأ بالقلق»، يطرح المؤلف الأسباب المُلِحّة التي تجعل من التهديد النووي واقعاً يجب أن يُؤخذ بجدّية. ويعلق فيه بقوله «القصة في المقدّمة مرعبة، لكنها لن تحدث... أليس كذلك؟ معظمنا يخشى، بدرجة ما، احتمال وقوع حرب نووية، لكننا نفضّل أن نصدّق أننا لن نشهد مثل هذا الحدث في حياتنا. هذا اعتقاد خاطئ. تقدَّر احتمالية وقوع صراع حراري نووي يدمّر الحضارة بحوالي 1% سنوياً. بالطبع، هذا مجرّد تقدير تقريبي، والاحتمال يتغير باستمرار مع صعود وهبوط التوترات بين القوى العظمى. مع ذلك، يبدو هذا الرقم معقولاً إذا أخذنا في الاعتبار سلسلة الحوادث القريبة من الكارثة في الماضي، من أزمة الصواريخ الكوبية إلى الأعطال التقنية. حذّر مارتن هيلمان (أستاذ فخري في جامعة ستانفورد) في عام 2021 من أن تراكم هذا الخطر السنوي، ولو كان بسيطاً، يعني أن طفلاً يولد اليوم ستكون لديه احتمالات أقل من واحد إلى عشرة ليعيش عمره الطبيعي دون أن يشهد تدمير الحضارة في حرب نووية». يليه الفصل الثاني «الشتاء» الذي يتناول فكرة الشتاء النووي وما يمكن أن يجرّه من تغيّرات مناخية مفجعة. أما الفصل الثالث «حرائق الغابات والحرب» فيربط بين الكوارث البيئية المتزايدة وخطر النزاعات المسلحة. وفي «فصول شتاء بركانية»، يستعرض ليناس نماذج تاريخية لأثر الغبار في الغلاف الجوي وكيف يمكن أن يكون مشابهاً لآثار انفجار نووي. ينتقل الكتاب في الفصل الخامس إلى «نهاية العصر الطباشيري»، مقدّماً تأملات في الانقراضات الجماعية السابقة كمرآة محتملة لمستقبل البشرية. يوسّع الفصل السادس «الخطر الوجودي» النقاش إلى الأبعاد الفلسفية والأخلاقية للتهديد النووي. ثم يأتي الفصل السابع «النجاة بأعجوبة»، حيث يعرض قصصاً واقعية عن الكوارث النووية التي كادت تقع وتمّ تجنّبها بشقّ الأنفس. ويناقش في الثامن «التلوّث الإشعاعي»، الآثار البيئية طويلة الأمد لأي تفجير نووي. ويُختتم السرد بفصل «حظر القنبلة»، الذي يرسم رؤى للجهود الدولية الممكنة لنزع السلاح النووي، تليه خاتمة بعنوان «أزهار الكرز في هيروشيما» تمنح بُعداً إنسانياً للتذكير بالمأساة التي عاشها الناجون. بهذه البنية، يوفّر الكتاب منظوراً شاملاً ومتدرجاً لفهم الخطر النووي، من أبعاده التقنية إلى تداعياته الإنسانية.