
لويس ألفاريز.. فيزيائي مؤثر في سياسة الردع النووي الأمريكي
لعب الفيزيائيون دوراً محورياً في رسم معالم القوة والردع، إذ تحوّلت الاكتشافات العلمية إلى عناصر حاسمة في ميزان القوى الدولية. من بين هؤلاء العلماء، برز لويس ألفاريز، بوصفه شخصية جمعت بين الابتكار العلمي والارتباط العميق بمؤسسات صنع القرار الأمريكي، في مرحلة كان فيها الخط الفاصل بين البحث الأكاديمي والتطبيقات العسكرية يزداد ضبابية.
صدر حديثاً عن دار «دبليو. دبليو. نورتون آند كومباني» كتاب «تصادمات: رحلة فيزيائي من هيروشيما إلى انقراض الديناصورات»، وهو سيرة علمية سياسية ممتدة للعالم الأمريكي الحائز جائزة نوبل لويس دبليو ألفاريز، كتبها المؤرخ والروائي الأمريكي أليك نيفالا-لي.
يقدم الكتاب رؤية معمّقة لدور ألفاريز في تطوير التكنولوجيا العسكرية الأمريكية، ليس فقط بوصفه أحد علماء الفيزياء البارزين في مشروع مانهاتن، بل كأحد الأصوات المؤثرة في سياسات الردع النووي خلال الحرب الباردة، وفي رسم معالم العلاقة بين العلم والسلطة في القرن العشرين.
يسير نيفالا-لي في مسار زمني تحليلي لمراحل حياة ألفاريز، متوقفاً عند مشاركته الميدانية في بعثة قصف هيروشيما بصفته المراقب العلمي الأول، وهي لحظة فارقة في التاريخ العلمي والسياسي معاً. لم تكن تلك الحادثة ذروة انخراطه في صناعة القرار العسكري، بل شكّلت بداية مسيرة طويلة وملتبسة في خدمة المشروع النووي الأمريكي.
في العقود التالية، واصل ألفاريز العمل في أبحاث عسكرية رفيعة المستوى، لا سيما في مجالات فيزياء الجسيمات، وتطوير أجهزة الاستشعار المتقدمة، وتقنيات التعقّب؛ جميعها أدوات عزّزت من قدرات الردع لدى الولايات المتحدة، ورسّخت مبدأ «التوازن النووي» الذي سيطر على الاستراتيجية الأمريكية طوال عقود الحرب الباردة.
كما يعرض الكتاب جانباً سياسياً حسّاساً في سيرة ألفاريز: شهادته المثيرة للجدل عام 1954 أمام «لجنة الطاقة الذرية»، والتي أسهمت في سحب التصريح الأمني من الفيزيائي الشهير روبرت أوبنهايمر، أحد آباء القنبلة النووية. هذا الموقف، الذي ظل محل انقسام في الأوساط العلمية والسياسية، كشف عن الوجه الآخر للعلاقة بين العلماء والدولة، حيث يتحوّل الفيزيائي إلى شاهد في معركة سياسية تتجاوز حدود المختبر.
إلى جانب ذلك، يضيء نيفالا-لي على جوانب أخرى من شخصية ألفاريز، كعالم مجرّب لم يكتفِ بفيزياء الجسيمات، حيث أحدث ثورة عبر تطوير حجرة الفقاعات الهيدروجينية، بل خاض مغامرات بحثية متنوعة، من بينها دراساته المثيرة للجدل في قضية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وتحقيقاته في فرضية اصطدام كويكب بالأرض وانقراض الديناصورات، التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية.
يوثّق الكتاب المسار العلمي لشخصية ألفاريز، ويفكّك البُعد السياسي العميق لدوره كفيزيائي مؤثر في مسار السياسة الأمريكية الدفاعية. يظهر في الكتاب كيف أن العلاقة بين الاكتشافات العلمية وصناعة القرار العسكري كانت، وما زالت، محفوفة بالتعقيد، وأن العلماء الذين يصنعون أدوات الدمار الكبرى، غالباً ما يجدون أنفسهم في قلب صراعات سياسية وأخلاقية.
يتّبع الكتاب بناءً زمنياً واضحاً يعكس التحولات الكبرى في علاقة ألفاريز بالعلم والسياسة. ففي القسم الأول (1911–1943)، المعنون «تجارب»، يرصد نيفالا-لي مسيرة التكوين العلمي المبكر للعالِم داخل بيئة أكاديمية، كانت تتجه تدريجياً نحو عسكرة الفيزياء، حيث بدأ يتبلور وعي ألفاريز بدور العلم في خدمة الدولة. ينتقل السرد في القسم الثاني (1943–1963)، «إتقان تقني»، إلى لحظة الانخراط الكامل في مشروع مانهاتن وتطوير القنبلة النووية، متتبعاً كيف أصبح ألفاريز لاحقاً، عنصراً فاعلاً في تعزيز قدرات الردع الأمريكية خلال عقود الحرب الباردة، خصوصاً في تطوير أدوات الاستشعار والتقنيات المساندة للاستراتيجية النووية.
أما القسم الثالث (1963–1988)، الموسوم بـ«رجل الكوارث»، فيستكشف تحول موقع ألفاريز إلى مستوى أكثر قرباً من دوائر صناعة القرار في واشنطن، في سياق اتسم بتعقيد العلاقة بين الاكتشافات العلمية وتوظيفها في خدمة الأجندات السياسية، من دون أن يغفل الكاتب ما قدمه العالِم في مجالات بحثية كونية، ظلّت تلقي بظلالها على مسيرته في سنواته الأخيرة.
يقع الكتاب في 352 صفحة، ويشكّل إضافة نوعية للمكتبة التاريخية حول العلاقة المتشابكة بين تطور العلوم العسكرية والتحولات الكبرى في السياسة الدولية خلال القرن العشرين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الإمارات اليوم
منذ 3 ساعات
- الإمارات اليوم
دراسة: مواد كيميائية لاتزال غير مكتشفة في المياه
كشف فريق بحث ألماني أن هناك العديد من المواد الكيميائية في المياه لا توجد لها قيم قياس على الإطلاق، أو لديها قيم قياس لكن بصورة غير كافية. وأجرى الفريق البحثي دراسته في الولايات المتحدة، ونشر نتائجه في دورية «ساينس». وبحسب فريق البحث، المكون من خمسة أفراد من جامعة «كايزرلاوترن-لانداو» التقنية الألمانية، فإن 0.52% فقط من نحو 297 ألف مادة كيميائية ذات صلة محتملة بالبيئة ومسجلة في قاعدة بيانات وكالة حماية البيئة الأميركية، تتوافر عنها بيانات كافية حول كل من وجودها في المياه وتأثيراتها. وأشار فريق البحث إلى أنه في الماضي كان هناك نقص في البيانات المتعلقة بالسمية، ولكن اليوم هناك نقص في بيانات الرصد. وجاء في الدراسة: «يُشكل المعدل المتزايد باستمرار لوصول مواد كيميائية جديدة إلى البيئة تحدياً لتقييم المخاطر البيئية». وتشير الدراسة إلى أنه «من دون رصد وجود وانتشار معظم المواد الكيميائية، يبقى هناك احتمال إغفال مخاطر بيئية كبيرة في بعض الحالات». وأوضحت الدراسة أن هذه هي الحال تاريخياً، على سبيل المثال، مع مبيد الحشرات «دي دي تي» أو مؤخراً مع مجموعة المواد الكيميائية «بي إف إيه إس» المستخدمة في العديد من المنتجات اليومية. وأوضح رالف شولتس، كبير مُعدي الدراسة: «يُظهر هذا كيف يمكن لجودة مراقبة المياه من قبل السلطات أن تؤثر في تقييمات مخاطر المواد الكيميائية». وقد نظر الباحثون فقط في التأثير في النظم البيئية المائية، وليس في صحة الإنسان. وكتب فريق البحث أن بعض المواد سامة للكائنات المائية، حتى في تركيزات لا يمكن اكتشافها بعد. ويتجلى هذا بشكل خاص مع المبيدات الحشرية، خاصةً مع مجموعة البيرثرويدات شديدة السمية للعديد من يرقات الحشرات، وكذلك للأسماك والكائنات المائية الأخرى. وكتب الباحثون، في إشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، أن العديد من تركيزات البيرثرويد ذات الصلة لاتزال غير مكتشفة في برامج الرصد المنتظمة.


البيان
منذ 3 ساعات
- البيان
تقنية للتنبؤ بالألم بعد الجراحة
طوّر باحثو جامعة واشنطن في سانت لويس تقنية تعلم آلي للتنبؤ بالألم بعد الجراحة. وشارك في الدراسة 780 مريضاً، وشملت بيانات الدراسة السجل الطبي للمريض ونتائج التحاليل. وأظهر النموذج أداءً أفضل من النماذج التقليدية، من حيث دقة التقديرات ومدى موثوقيتها.


صحيفة الخليج
منذ 7 ساعات
- صحيفة الخليج
لويس ألفاريز.. فيزيائي مؤثر في سياسة الردع النووي الأمريكي
لعب الفيزيائيون دوراً محورياً في رسم معالم القوة والردع، إذ تحوّلت الاكتشافات العلمية إلى عناصر حاسمة في ميزان القوى الدولية. من بين هؤلاء العلماء، برز لويس ألفاريز، بوصفه شخصية جمعت بين الابتكار العلمي والارتباط العميق بمؤسسات صنع القرار الأمريكي، في مرحلة كان فيها الخط الفاصل بين البحث الأكاديمي والتطبيقات العسكرية يزداد ضبابية. صدر حديثاً عن دار «دبليو. دبليو. نورتون آند كومباني» كتاب «تصادمات: رحلة فيزيائي من هيروشيما إلى انقراض الديناصورات»، وهو سيرة علمية سياسية ممتدة للعالم الأمريكي الحائز جائزة نوبل لويس دبليو ألفاريز، كتبها المؤرخ والروائي الأمريكي أليك نيفالا-لي. يقدم الكتاب رؤية معمّقة لدور ألفاريز في تطوير التكنولوجيا العسكرية الأمريكية، ليس فقط بوصفه أحد علماء الفيزياء البارزين في مشروع مانهاتن، بل كأحد الأصوات المؤثرة في سياسات الردع النووي خلال الحرب الباردة، وفي رسم معالم العلاقة بين العلم والسلطة في القرن العشرين. يسير نيفالا-لي في مسار زمني تحليلي لمراحل حياة ألفاريز، متوقفاً عند مشاركته الميدانية في بعثة قصف هيروشيما بصفته المراقب العلمي الأول، وهي لحظة فارقة في التاريخ العلمي والسياسي معاً. لم تكن تلك الحادثة ذروة انخراطه في صناعة القرار العسكري، بل شكّلت بداية مسيرة طويلة وملتبسة في خدمة المشروع النووي الأمريكي. في العقود التالية، واصل ألفاريز العمل في أبحاث عسكرية رفيعة المستوى، لا سيما في مجالات فيزياء الجسيمات، وتطوير أجهزة الاستشعار المتقدمة، وتقنيات التعقّب؛ جميعها أدوات عزّزت من قدرات الردع لدى الولايات المتحدة، ورسّخت مبدأ «التوازن النووي» الذي سيطر على الاستراتيجية الأمريكية طوال عقود الحرب الباردة. كما يعرض الكتاب جانباً سياسياً حسّاساً في سيرة ألفاريز: شهادته المثيرة للجدل عام 1954 أمام «لجنة الطاقة الذرية»، والتي أسهمت في سحب التصريح الأمني من الفيزيائي الشهير روبرت أوبنهايمر، أحد آباء القنبلة النووية. هذا الموقف، الذي ظل محل انقسام في الأوساط العلمية والسياسية، كشف عن الوجه الآخر للعلاقة بين العلماء والدولة، حيث يتحوّل الفيزيائي إلى شاهد في معركة سياسية تتجاوز حدود المختبر. إلى جانب ذلك، يضيء نيفالا-لي على جوانب أخرى من شخصية ألفاريز، كعالم مجرّب لم يكتفِ بفيزياء الجسيمات، حيث أحدث ثورة عبر تطوير حجرة الفقاعات الهيدروجينية، بل خاض مغامرات بحثية متنوعة، من بينها دراساته المثيرة للجدل في قضية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وتحقيقاته في فرضية اصطدام كويكب بالأرض وانقراض الديناصورات، التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية. يوثّق الكتاب المسار العلمي لشخصية ألفاريز، ويفكّك البُعد السياسي العميق لدوره كفيزيائي مؤثر في مسار السياسة الأمريكية الدفاعية. يظهر في الكتاب كيف أن العلاقة بين الاكتشافات العلمية وصناعة القرار العسكري كانت، وما زالت، محفوفة بالتعقيد، وأن العلماء الذين يصنعون أدوات الدمار الكبرى، غالباً ما يجدون أنفسهم في قلب صراعات سياسية وأخلاقية. يتّبع الكتاب بناءً زمنياً واضحاً يعكس التحولات الكبرى في علاقة ألفاريز بالعلم والسياسة. ففي القسم الأول (1911–1943)، المعنون «تجارب»، يرصد نيفالا-لي مسيرة التكوين العلمي المبكر للعالِم داخل بيئة أكاديمية، كانت تتجه تدريجياً نحو عسكرة الفيزياء، حيث بدأ يتبلور وعي ألفاريز بدور العلم في خدمة الدولة. ينتقل السرد في القسم الثاني (1943–1963)، «إتقان تقني»، إلى لحظة الانخراط الكامل في مشروع مانهاتن وتطوير القنبلة النووية، متتبعاً كيف أصبح ألفاريز لاحقاً، عنصراً فاعلاً في تعزيز قدرات الردع الأمريكية خلال عقود الحرب الباردة، خصوصاً في تطوير أدوات الاستشعار والتقنيات المساندة للاستراتيجية النووية. أما القسم الثالث (1963–1988)، الموسوم بـ«رجل الكوارث»، فيستكشف تحول موقع ألفاريز إلى مستوى أكثر قرباً من دوائر صناعة القرار في واشنطن، في سياق اتسم بتعقيد العلاقة بين الاكتشافات العلمية وتوظيفها في خدمة الأجندات السياسية، من دون أن يغفل الكاتب ما قدمه العالِم في مجالات بحثية كونية، ظلّت تلقي بظلالها على مسيرته في سنواته الأخيرة. يقع الكتاب في 352 صفحة، ويشكّل إضافة نوعية للمكتبة التاريخية حول العلاقة المتشابكة بين تطور العلوم العسكرية والتحولات الكبرى في السياسة الدولية خلال القرن العشرين.