
هل ستنفجر الخريطة الجيوسياسية تحت أقدام الصامتين؟ بقلم : سالي أبو عياش
هل ستنفجر الخريطة الجيوسياسية تحت أقدام الصامتين؟ بقلم : سالي أبو عياش
من غزة إلى البحر الأحمر، ومن طهران إلى باكستان، تتكاثر خطوط التوتر في الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق منذ عقود. الانفجارات السياسية والعسكرية المتنقلة، وتداخل الصراعات، وتحوّل الفاعلين المحليين إلى أدوات ضمن صراعات أوسع، يشير إلى أن المنطقة تقترب من نقطة تحوّل جيوسياسية حادة. في ظل غياب رؤية دولية متماسكة، وتصاعد أدوار قوى إقليمية غير تقليدية، تبدو الخريطة وكأنها تُعاد صياغتها تحت الضغط، وسط صمت رسمي عربي، واستقطاب دولي غير متزن.
وسط هذه التعقيدات، يبرز سؤال حاد: هل نحن على أعتاب حرب شاملة؟ أم أمام انفجار تدريجي لخريطة جيوسياسية فشلت القوى الكبرى في احتوائها؟
قطاع غزة والضفة الغربية (النواة المتفجرة):
قطاع غزة تلك البقعة الجغرافية المحاصرة التي تعاني ويلات الحصار وحرب الإبادة التي أكلت هويتها منذ ما يزيد عن عام ونصف، لم تعد فقط ساحة حرب، بل بؤرة تفجير إقليمي. فالعدوان الإسرائيلي المستمر منذ أكتوبر 2023، وتزايد المجازر بحق المدنيين، وضع الاحتلال في مأزق أخلاقي وسياسي غير مسبوق، حتى بين أقرب حلفائه، أكثر من 56.423 شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء، ودمار شبه كامل للبنية التحتية، وتهجير قسري بين الشمال والجنوب غير الجغرافيا السياسية بالمنطقة من جهة وأضاح الرؤية حول ازدواجية المعايير القانونية والدولية التي تتحكم بالعالم.
أما الضفة الغربية التي تُخنق يومياً من خلال الاقتحامات المتواصلة للمدن والقرى الفلسطينية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه الذين يعيثون بالأرض فساد، واغتيالات، واعتقالات متواصلة، ناهيك عن سياسة هدم المنازل الفلسطينية بذرائع مختلفة وبشكل ممنهج إضافة إلى الحواجز والبوابات العسكرية على مداخل ومخارج المدن الفلسطينية وتفصلها عن بعضها البعض بشكل معزول (كانتونات) وبلغ عددها ما يقارب 900 بوابة حديدة وحاجز عسكري.
هذا الانفجار المركّب في الجغرافيا الفلسطينية يُعتبر جزءاً لكل ما يحدث حوله من تغيرات في الإقليم، إذ أنه جزء لا يتجزأ من صفقات ومخططات سياسية كصفقة القرن وخطة الحسم والضم واتفاقيات ابراهام، وسيؤثر ويتأثر في إيقاع باقي الملفات في المنطقة الإقليمية.
إسرائيل من التوسّع العسكري إلى العجز الأمني:
بعد طوفان الأقصى اندفعت إسرائيل نحو توسيع رقعة المواجهة لتشمل أكثر من ساحة قتال إلى جانب عدوانها الكاسح على غزة، فكثّفت عملياتها في الضفة الغربية، واشتبكت مع حزب الله في جبهة الشمال (جنوب لبنان)، وقصفت مواقع في سوريا، وواجهت هجمات من اليمن وقامت بالرد عليها وقصفت بعض المناطق الحيوية في اليمن كميناء الحديدة، واخيراً انخرطت في توتر متصاعد مع إيران وقامت بتوجيه ضربات في قلب طهران وايران لترد ايران على ذلك وتشتعل هذه الجبهة إلى جانب جبهة قطاع غزة والضفة الغربية وبعض التوترات في الجبهات الأخرى، وقد شكّلت الضربة الإيرانية المباشرة في جوان 2025 سابقة عسكرية قلبت موازين الردع في الإقليم، وأظهرت هشاشة الدفاعات الجوية الإسرائيلية رغم الدعم الأميركي والغربي.
وهكذا، تحوّل التوسع العسكري الإسرائيلي، الذي أرادت من خلاله رسم مشهد 'نصر استراتيجي' يعوّض فشلها في 7 أكتوبر، إلى مأزق متصاعد. فإسرائيل اليوم تجد نفسها في ورطة متعددة الجبهات: استنزاف في الموارد، إنكشاف أمام صواريخ حزب الله وإيران، وضعف في الجبهة الداخلية التي تعاني من انقسامات سياسية حادة، واحتجاجات متواصلة ضد الحكومة، وتراجع حاد في ثقة الجمهور بالمؤسسة الأمنية والعسكرية. فإسرائيل اليوم تقاتل على أكثر من جبهة، لكنها في الواقع تقترب أكثر من حدود العجز، وتغرق في مأزق وجودي يتعمّق مع كل ضربة اتجاه عمقها في هذه الحرب.
إيران وسوريا ولبنان (مثلث الردع المتحفّز):
تعاملت إسرائيل طويلاً مع لبنان وسوريا كجبهات تهديد فاعلة، شهد هذان البلدان حالة من الركود النسبي. ففي لبنان، ورغم المواجهات اليومية التي خاضها حزب الله منذ طوفان الأقصى، جاءت الضربة القاصمة باغتيال أمينه العام، السيد حسن نصر الله، ما أضعف القيادة المركزية للمقاومة هناك، وأدى لاحقاً إلى اتفاق هش لوقف إطلاق النار، هدّأ الجبهة الشمالية رغم بعض الخروقات الإسرائيلية. أما على الأرض، فتراجعت فعالية الحزب العسكرية، وتقلص حضوره الميداني، في ظل تعقيدات داخلية وانكفاء شعبي واضح.
أما سوريا، التي كانت ذات يوم لاعباً مركزياً في محور المقاومة، فقد تحولت تدريجياً إلى ساحة نفوذ متنازع عليها. فمع انهيار نظام بشار الأسد، دخلت البلاد في مرحلة تفكك سياسي وأمني، استغلتها إسرائيل لتوسيع وجودها العسكري والسيطرة على مناطق حدودية. واليوم، ومع صعود الرئيس أحمد الشرع، بات التموضع السوري في تحوّلاً دراماتيكياً يعمّق حالة الضعف داخل محور المقاومة
وفي قلب التحولات الإقليمية العنيفة، تقف إيران كأحد الأطراف قدرةً على التأثير وكسر المعادلات، فهي تتحرّك ضمن استراتيجية مدروسة، إلى جانب حلفائها في لبنان وسوريا واليمن وتوازن فيها بين التصعيد والتهدئة، وفقاً لحسابات دقيقة. لكن الاغتيالات الإسرائيلية في قلب طهران، واستهداف المستشارين الإيرانيين في سوريا، كسرت هذا التوازن، لتفتح الباب أمام تصعيد غير مسبوق. وبينما كانت على وشك الدخول في مفاوضات نووية جديدة مع القوى الكبرى، أطاحت المواجهة المتصاعدة بكل قنوات الدبلوماسية، واندلعت حرب مباشرة مع إسرائيل وسط قصف وضربات متبادلة تشي بأن المعركة خرجت من إطار السيطرة التقليدية، فالضربة الإيرانية الواسعة رداً على الاعتداءات الإسرائيلية وضعت المنطقة على حافة الانفجار، ودفعت أطرافاً إقليمية إلى الاصطفاف علناً إلى تحالف أما إسرائيلي أو إيراني في مشهد ينذر بإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية بالكامل.
وهكذا، بينما تتصاعد الحرب بين إيران وإسرائيل، يتراجع تأثير جبهات المحور التقليدية، ويتصدّع عمق المقاومة في لحظة كانت تستدعي تماسكا أكبر، ما يعكس انقلاباً واضحاً في موازين القوى الإقليمية.
اليمن والخليج (رسائل صاروخية تحت الطاولة):
تعد اليمن أيضا أحد أركان محور المقاومة، فحركة أنصار الله في اليمن أصبحت لاعباً مؤثراً في الإقليم. واعتبرها إسرائيل جبهة قتال مفتوحة ضدها لما قامت به من هجمات البحر الأحمر، استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل، وشلّ الملاحة في المضائق، وقيامها بتوجيه ضربات صاروخية بالستية إلى عمق تل إسرائيل. تأكيداً لدعمها للشعب الفلسطيني بحقة في مقاومة الاحتلال بصورة خاصة أدخل واشنطن واسرائيل في معركة بحرية لم تكن مستعدة لها إن ازدادت حدة الموقف اليوم من الممكن اغلاق البحر الأحمر ومضيق هرمز في وجه التجارة مما سيؤدي إلى تدهور اقتصادي في المنطقة.
أما الخليج برمته بالرغم من أنه يحاول البقاء على موقع المتفرج القلق والمستنكر أحياناً سيشعر بخطر التصعيد، ويعمل على التوازن بين تطبيعه مع إسرائيل ومخاوف أمنه الداخلي، فهو يدرك أن النار إذا اتسعت، فلن تستثني أحداً.
مواقف دولية (إدارة أزمة بلا حل)
في مفاجأة لافتة، بدأت باكستان بالخروج من صمتها التقليدي، عبر خطابات حادّة تجاه المجازر الإسرائيلية في غزة، مع مؤشرات تقارب متسارعة مع محور المقاومة في إيران. هذا التحول، إن استمر، قد يُعيد رسم التوازنات في جنوب آسيا، ويمنح طهران حليفاً استراتيجياً جديداً في منطقة طالما بقيت خارج معادلة الاشتباك المباشر. أما كوريا الشمالية، فتمضي في نهجها المعروف: تراقب، تلوّح، وتبعث بإشارات دعم غير مباشرة لطهران، فيما يشبه تحالفاً غير معلن ضد الهيمنة الأميركية في المنطقة، يهدد بإزاحة الأزمة من إطارها الشرق أوسطي إلى سياق دولي أشمل.
في المقابل، تقف واشنطن في موقع من يمسك بكل الخيوط، لكنه يعجز عن نسج حل. فهي تواصل دعم إسرائيل سياسياً وعسكرياً بلا شروط، وتراهن على سياسة 'الاحتواء المؤجل'، لكنها تفشل في فرض تهدئة حقيقية. بل إن هذا الدعم غير المشروط يغذّي الانفجار أكثر مما يحدّ منه. ومع اتساع المجازر، تتصاعد الضغوط داخلياً على الرئيس ترامب، الذي يواجه انتقادات حادة من الكونغرس والرأي العام، ما يُضعف قدرة واشنطن على ضبط الحلفاء أو كبح خصومها.
المواقف العربية، في معظمها، تراوحت بين الخذلان الكامل والمناورة الباردة. فالجامعة العربية غائبة فعلياً، والبيانات الرسمية لا توازي حجم الكارثة الجارية. الأنظمة تكتفي بإدانات شكلية وبيانات مكتوبة بلغة خشبية، بينما الشعوب تغلي من المغرب إلى البحرين، وتملأ الشوارع بالغضب والدعوات للمقاطعة والمقاومة. هذا التباين بين الأنظمة والجماهير يفتح باباً واسعاً للأسئلة: هل سيبقى الغضب الشعبي مجرد حالة عابرة؟ أم أن صمت الأنظمة قد يرتد عليها داخلياً، ويُفجّر أزمات سياسية وأمنية لا يمكن التنبؤ بها؟
إن هذه التغيرات السياسية في العالم برمته ومنطقة الشرق الأوسط بصورة خاصة يجعلنا امام سيناريوهات محتملة للتوصل الى حل لكل ما يحدث من حروب وابادة تتمثل في:
أولاً: تصعيد شامل: في حال حدوث ضربة كبيرة (من أو على إيران أو اسرائيل) خاصة على المفاعلات النووية الكبرى أو دخول الولايات المتحدة الامريكية بشكل مباشر إلى الحرب، قد ينفجر الإقليم عسكرياً، ويدخل في مواجهة متعددة الجبهات.
ثانياً: الاستنزاف الطويل: استمرار الحرب في غزة مع تصعيد محدود في الأطراف، وسط شلل دبلوماسي وتغيرات ومصالح شخصية سيؤدي لاستمرار الحرب وبقاء الوضع على ما هو عليه اليوم.ثالثاً: تفاهمات مؤقتة: برعاية دولية (هدنة قصيرة أو طويلة الأمد)، تُجمّد النار دون معالجة أصل الأزمة.
رابعاً: انهيار إقليمي متدرج: حيث ينهار النظام القائم دون حرب مباشرة، بل بفوضى متصاعدة وتآكل داخلي في أكثر من دولة.
في النهاية إن الخريطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط لم تعد تُدار بالحسابات الدقيقة، بل بالصمت، التراخي، والتجريب، لكن الجبهات المشتعلة لا تنتظر.
فالمجازر في غزة لن تبقى محصورة في لحدودها فحين تنفجر الخريطة، لن يكون هناك 'متفرجون' بل ضحايا من كل الأطراف، وحسابات سقطت تحت ركام اللحظة وشرق أوسط جديد لا نعلم نهايته حتى اللحظة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين اليوم
منذ 32 دقائق
- فلسطين اليوم
مواقف إيرانية حول إغلاق مضيق هرمز وواشنطن تحذر
قال عضو بلجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني اليوم الأحد إن الحرس الثوري مستعد لإغلاق مضيق هرمز. وأفادت تقارير اليوم بأن البرلمان الإيراني وافق على غلق مضيق هرمز وأن القرار مرهون بموافقة المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران. كما قال عضو بلجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني إن الحرس الثوري مستعد لإغلاق المضيق "إذا اقتضت الحاجة والظروف ذلك". ونقلت شبكة "إن بي سي" عن جيه دي فانس نائب الرئيس الأميركي أن تعطيل حركة الملاحة في مضيق هرمز "سيكون انتحارا" بالنسبة لإيران، مشيرا إلى أن واشنطن تلقت رسائل غير مباشرة من الإيرانيين في الساعات التي تلت الضربة الأميركية. وكان النائب والقائد في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل كوثري قال لنادي الصحفيين الشباب اليوم إن إغلاق المضيق مطروح "وسيتخذ القرار إذا اقتضى الأمر". كما نقلت تقارير صحفية اليوم عن سارة فلاحي، وهي عضو باللجنة الأمنية في البرلمان، أن الإغلاق المحتمل لمضيق هرمز سيكون أيضا على جدول الأعمال في جلسة خاصة للجنة البرلمانية.


فلسطين اليوم
منذ 32 دقائق
- فلسطين اليوم
الحرس الثوري الإيراني يدين الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية
أدان الحرس الثوري الإيراني بشدة، فجر اليوم، الهجوم العسكري الذي شنته الولايات المتحدة على منشآت نووية سلمية داخل أراضي الجمهورية الإسلامية، معتبرًا أن واشنطن نفذت هذا العدوان بالتنسيق الكامل مع الكيان الصهيوني. وفي بيان رسمي، وصف الحرس الثوري الضربة بأنها جريمة غير مسبوقة وانتهاك صارخ للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ومعاهدة حظر الانتشار النووي (NPT). وأكد أن هذه الخطوة تعكس عجز المعتدين عن تغيير المعادلات الميدانية، وتكشف عن فشل استراتيجياتهم في المنطقة. وأشار البيان إلى أن القوات الإيرانية راقبت عن كثب مسارات الطائرات المشاركة في الهجوم، مؤكدًا أن كثرة القواعد الأمريكية في المنطقة لا تمثل مصدر قوة بل نقاط ضعف قابلة للاستهداف. كما شدد الحرس الثوري على أن الهجوم لن يثني العلماء الإيرانيين عن مواصلة تطوير التكنولوجيا النووية السلمية، معتبرًا أن العدوان سيزيد من عزيمتهم على التقدّم. وفي ختام البيان، أكد الحرس الثوري استمرار عمليات "وعد صادق 3" ضد أهداف صهيونية استراتيجية، مشيرًا إلى أن الجمهورية الإسلامية تحتفظ بحق الرد المشروع، ولن تتردد في اتخاذ خيارات تتجاوز حسابات المعتدين.


فلسطين اليوم
منذ 36 دقائق
- فلسطين اليوم
متى ستضرب إيران منشآت "إسرائيل" النووية؟
الكاتب: أحمد عبد الرحمن حتى كتابة سطور هذا المقال، يبدو أن القيادة السياسية والعسكرية في إيران لم تتخذ قراراً بتوجيه ضربة صاروخية مباشرة ضد المنشآت النووية الصهيونية، وهي على الرغم من تعرّض بعض منشآتها لهجمات "إسرائيلية " متعدّدة، كما حدث في نطنز وفوردو وأراك وغيرها، إلّا أنها ما زالت حتى الآن تحتفظ بهدوئها المعتاد، وتُبقي هذا الخيار مطروحاً ولكن في الوقت المناسب. يُعرف عن المخطّطين الاستراتيجيين في إيران برود أعصابهم، وعدم تأثّرهم بالكثير من الأحداث التي يراها غيرهم بأنها تستدعي رداً مختلفاً أو خارجاً عن المألوف، وهم في هذا شأنهم شأن معظم الإيرانيين، إن لم يكن جميعهم، والذين يمتازون بالكثير من الهدوء، ويتحاشون الانفعالات الزائدة عن الحد، وينظرون إلى الأحداث والتطوّرات من زاويتها الاستراتيجية طويلة الأمد. قد يقول البعض بأن إيران قد ضربت فعلا أحد المواقع الإسرائيلية المعنية بالسلاح النووي، والمقصود هنا بطبيعة الحال هو معهد وايزمان للعلوم الواقع في "رحوفوت" قرب مدينة الرملة المحتلة، ما تسبّب في دمار كبير في مختبراته الرئيسية، وصفها أحد العاملين فيه بأنها غير مسبوقة، إلا أن هذا المعهد لا يُعتبر منشأة مباشرة لإنتاج السلاح النووي أو مشتقّاته، بل هو معهد بحثي بالدرجة الأولى، يتألف من عدة أقسام، منها قسم الأبحاث النووية والإلكترونات والرياضيات التطبيقية، وقسم الأشعة ما دون الحمراء والكيمياء التصويرية وأبحاث النظائر المشعة والكيمياء العضوية والتجارب البيولوجية، وهو وإن كان يطرح خططاً ويقدّم مقترحات في هذا الجانب، إلا أنه لا يحوي أي قسم عملي لإنتاج أسلحة نووية، ولا تُقام فيه تجارب في هذا المجال، ويبدو أن الهدف من ضربه كان عبارة عن رسالة إيرانية لـ"إسرائيل" حول القدرة على استهداف منشآتها النووية الرئيسية، في الوقت الذي تحتاج فيه إلى ذلك. وهنا يأتي السؤال الذي يشغل بال الجميع في "إسرائيل" وربما حول العالم أيضاً، والمتعلّق بالوقت الذي تذهب فيه إيران باتجاه خيار الهجوم على المنشآت النووية في "الدولة" العبرية، وهل هي قادرة فعلاً على القيام بذلك، وما هي التداعيات التي يمكن أن تنشأ عن هذا الهجوم الذي بات يشكّل كابوساً مفزعاً للإسرائيليين. لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال، دعونا نعرّج على طبيعة المنشآت النووية الإسرائيلية، والتي وعلى الرغم من مضي سنوات طويلة على إنشائها، واستخدامها من قِبل الحكومات العبرية المتعاقبة كفزّاعة ضد أعدائها في المنطقة والعالم، فإن جميع الدول القريبة والبعيدة تلتزم الصمت إزاءها، ولم نسمع سوى دعوات محتشمة من بعض الأطراف للكشف عن مضمونها، وعما يمكن أن تشكّله من خطر على صعيد المنطقة على وجه الخصوص. المنشآت النووية الإسرائيلية: على الرغم من مرور عشرات السنين على إقامة "إسرائيل" لأول منشأة نووية على الأراضي الفلسطينية المحتلة ،إلا أنها لم تُعلن بشكل رسمي عن امتلاكها برنامجاً نووياً سواء كان عسكرياً أم سلمياً، إضافة إلى رفضها التوقيع على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، وقد جاءت المعلومات الأبرز عن قدرات "إسرائيل" النووية على لسان "مردخاي فعنونو"، المهندس الإسرائيلي الذي كان يعمل في مركز النقب للأبحاث النووية، حيث كشف لصحيفة الصانداي تايمز البريطانية في تشرين الأول/ أكتوبر 1986 عن بعض الملفات المصنّفة بأنها بالغة السرية تتعلّق بتلك الأنشطة، وبحسب الكثير من المعلومات فإن "إسرائيل" تملك عدة منشآت نووية نشير فيما يلي إلى أهمها: 1 - مفاعل ديمونا: تم تشييد هذا المفاعل في حقبة الستينات من القرن الماضي في صحراء النقب بمساعدة فرنسية، ويُطلق عليه في "إسرائيل" لقب " قدس الأقداس" أو "الهيكل"، ويُعتبر المصدر الرئيسي لإنتاج البلوتونيوم المستخدم في تصنيع القنبلة النووية الإسرائيلية. وبحسب المعلومات التي قدمها موردخاي فعنونو، ينتج المفاعل سنوياً 40 كغم من البلوتونيوم للأغراض العسكرية، وهو ما يشير، بحسب الخبراء العسكريين، إلى أن المفاعل يعمل بطاقة تصل إلى 150 ميغاواط على الأقل. ويتكوّن المفاعل من تسعة مبان، ويعمل فيه حوالى ثلاثة آلاف فني ومهندس، ويحظى بحماية أمنية من الدرجة الأولى. بحسب المعلومات، يحوي المبنى الأول مقر المفاعل الرئيسي المعروف بقبّته الفضية، أما الثاني الذي يقع بمعظمه تحت الأرض، فيضم منشأة فصل البلوتونيوم، وقسم تصنيع البلوتونيوم، وقسم تصنيع مكونات القنبلة المؤلفة من ديتورايد الليثيوم والبيرليوم. المبنى الثالث في ديمونا يضم المنشأة التي يجري فيها إنتاج مادة الليثيوم، ومعالجة اليورانيوم الطبيعي، وتصنيع قضبان المفاعل، ويختص المبنى الرابع بمعالجة النفايات المشعة القادمة من قسم استخراج البلوتونيوم، وعادة ما يتم فيها تحويل النفايات إلى مواد قابلة للاستخدام، إضافة إلى فصل اليورانيوم لإعادة استخدامه مجدداً. بدوره يُعنى المبنى الخامس بتغليف قضبان اليورانيوم بمادة الألومينيوم، فيما السادس يوفّر الطاقة والخدمات الأخرى للمفاعل. أما المبنى السابع فيضم مختبراً لإجراء التجارب الخاصة بعملية التطوير، ويتألف من 480 وحدة تدير أجهزة الطرد المركزي الخاصة بتخصيب اليورانيوم، فيما يُعتبر المبنى الثامن منشأة لتخصيب النظائر المشعة بالليزر وتخصيب اليورانيوم، والمبنى التاسع والأخير ينتج معدن اليورانيوم المنضّب المستخدم في صناعة بعض الذخائر. 2 - مركز "ناهال سوريك" للأبحاث النووية: جرى افتتاح مركز "ناهال سوريك" للأبحاث النووية في العام 1955 جنوب مدينة تل أبيب، حيث تم الانتهاء من بناء مفاعل الأبحاث الخاص به وهو بقدرة 5 ميغاوات في العام 1960، لكن خلافاً لمفاعل ديمونا، يخضع هذا المفاعل لنظام الحماية المنصوص عليه من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ويُعتبر من أهم مراكز البحوث العسكرية الخاصة بالسلاح النووي، كما يضم قسماً خاصاً بالأبحاث الفضائية. 3-مركز الأبحاث البيولوجية: ويتبع هذا المركز لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي مباشرة، ويعمل بشكل وثيق مع العديد من الهيئات الحكومية وأولها القوات المسلحة ووزارة الطاقة، ويقع في منطقة "نتسيونا" على بعد عشرين كيلومتراً جنوب تل أبيب، ويضم حوالى 150 عالماً وباحثاً في مجال البيولوجيا والكيمياء الحيوية والكيمياء العضوية والفيزيائية وعلوم البيئة، ويُعتبر المكان الرئيسي للقيام بأبحاث حول الأسلحة الجرثومية والكيميائية. 4- مركز رافائيل: يُعرف رسمياً باسم هيئة تطوير التسلّح الإسرائيلية، ويعتبر واحداً من أكبر المراكز العالمية لتصنيع وتطوير أنظمة التسلح البحرية والجوية والبرية، يقع المركز في مدينة حيفا، ومن أهم منشآته القسم الرقم 20 الذي يُستخدم كمختبر لتصميم الأسلحة النووية، والقسم الرقم 48 وهو عبارة عن مختبر لتطوير الصواريخ. 5-منشأة تيروش: وهي عبارة عن مخزن للأسلحة النووية الاستراتيجية، ويتوزع هذا المخزن على شبكة من الطرق والمسارات التي توصل إلى أكثر من سبعين ملجأ، منها خمسة رئيسية يقول بعض المختصين أن الأسلحة النووية الاستراتيجية مخزّنة فيها، وتضم الملاجئ الباقية متفجرات وذخائر، ويقع هذا المركز بالقرب من قاعدة تل نوف الجوية، ومقر قيادة الوحدات الصاروخية جنوب مدينة تل أبيب. 6- منشأة يوديفات: وهي تُعتبر منشأة خاصة لتجميع وتفكيك الأسلحة النووية، حيث أُنشئ هذا الموقع الحسّاس تحت الأرض شرق مدينة حيفا، ويعتبره بعض المراقبين والخبراء الموقع المخصص لاستقبال البلوتونيوم من مفاعل ديمونا. 7- مستودع عيلبون: يُعتبر مستودعاً للأسلحة النووية التقليدية، يقع بالقرب من قرية عيلبون في الجليل الأسفل، وتخزن فيه قذائف المدفعية النووية والألغام النووية. 8/ معهد إسرائيل التقني (التخنيون): يقع في مدينة حيفا، تأسس عام 1924، حيث تحوّل لاحقاً إلى جامعة وإن بقي معروفاً باسمه الأصلي، وأهم أقسامه مؤسسة الأبحاث والتطوير، وفيه قسم للهندسة النووية ومعامل ميكانيكية وكيمياوية. ويخرّج المعهد علماء ومهندسين متخصصين في الذرة. بعد هذا الاستعراض السريع لأهم المنشآت النووية الإسرائيلية، دعونا نعُد إلى سؤالنا الأساس، والمتعلّق بالوقت الذي ستذهب فيه إيران إلى استهداف هذه المنشآت أو بعضها، والتي من دون أدنى شك تملك معلومات كافية ووافية عنها، وهل بالفعل تملك إمكانات عسكرية لتفعل ذلك، وما هي التداعيات الناتجة عن هذا الاستهداف في حال حصوله؟ في حقيقة الأمر، يبدو الذهاب نحو قرار حاسم كهذا في غاية الصعوبة والتعقيد، نظراً لحساسية الموضوع، والنتائج التي يمكن أن تترتّب عليه، لذلك نحن نعتقد أن هناك حدثين مفصليّين قد يدفعان الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتخاذ مثل هذا القرار، وربما في حال حدوث أحدهما أو كلاهما معاً فلن تجد إيران بدّاً من اللجوء إلى هذا القرار الصعب والبالغ الخطورة. أول هذين الحدثين هو تمكّن "إسرائيل" من إحداث ضرر بالغ في المنشآت النووية الإيرانية، ولا سيّما في موقع فوردو الحصين، والذي وإن استطاعت المقاتلات الحربية الصهيونية استهدافه أكثر من مرة منذ بدء العدوان على إيران، إلا أن كل المؤشرات تدل على أنه لم يتعرّض لأي أذى يُذكر، حيث إن وجوده تحت الأرض بعشرات الأمتار، كما يقول الكثير من المصادر، يجعله عصيّاً على الاستهداف والتدمير. إلا أنه في حال تمكّن العدو من إصابته بشكل مباشر في ظل الدعم العسكري الأميركي المفتوح، والذي يمكن أن يصل إلى درجة تزويد الكيان الصهيوني بقنابل خارقة للتحصينات، فإن ذلك سيدفع من دون أدنى شك القيادة الإيرانية إلى الرد بالطريقة نفسها، وإلى توجيه ضربة حاسمة للمنشآت النووية الإسرائيلية. ثاني الحدثين المشار إليهما أعلاه هو شعور القيادة الإيرانية بأنها في طريقها لخسارة المعركة، خصوصاً إذا ما توسّعت المشاركة الأميركية فيها من الدعم العسكري والاستخباري واللوجستي، إلى المشاركة المباشرة بالقصف الجوي والصاروخي. هذه المشاركة المحتملة، والتي يمكن أن تزيد من حدّة الضغط على القيادة في إيران، نظراً لحجم الإمكانات الأميركية الهائلة، يمكن أن تدفعها إلى الذهاب نحو إشعال كل المنطقة، بداية من إغلاق مضيق هرمز، ومروراً باستهداف القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، ووصولاً إلى استهداف المنشآت النووية في "الدولة" العبرية. فيما يخص قدرة إيران على القيام بذلك، تشير مجريات المعركة الحالية إلى أنها تمتلك الإمكانات والقدرات اللازمة لتنفيذ مثل هذا الاستهداف، خصوصاً إذا ما عرفنا أنها ما زالت تحتفظ بصواريخها الأكثر دقّة، والأوسع تدميراً لمثل هذه اللحظات الفارقة، وقد ظهر جزء من تلك القدرات في عمليات الاستهداف الأخيرة التي أصابت مراكز استراتيجية للكيان الصهيوني، كان من بينها مبنى البورصة في تل أبيب، وقاعدة الاستخبارات في بئر السبع، إضافة إلى معهد وايزمان للعلوم والتكنولوجيا المشار إليه أعلاه. على مستوى التداعيات المباشرة لأي ضربة من هذا القبيل، فإن أي استهداف لمنشأة نووية داخل "إسرائيل" يمكن أن يؤدي إلى ضرر لا يمكن جبره أو السيطرة عليه، وهناك خشية إسرائيلية حقيقية في هذا الخصوص، حيث أشار تقرير صدر سابقاً عن وكالة الطاقة الذرية الأميركية، أنه في حال تعرّض مفاعل ديمونا، على سبيل المثال، لهجوم صاروخي، ونجح هذا الهجوم في اختراق الدفاعات الجوية والقبة الحديدية التي تحمي الموقع، فسوف يُنثَر الماء الثقيل داخل المفاعل، ويحدث انفجارات وحرائق تشتمل على مكونات وقود نووي، وتنبعث منها مواد إشعاعية، قبل أن تتحول المواد إلى سحابة تطير مع الريح بعيداً عن ديمونا. وأضاف التقرير أن أي حادث أو تسريب أو تفجير بمفاعل ديمونا، من شأنه أن يُحدث ضرراً هائلاً في مساحة جغرافية تبدأ من النقب جنوباً وصولا إلى تل أبيب وسط البلاد، وهي منطقة يقطنها نحو 5 ملايين إسرائيلي. هذا الأمر في حال كان المُستهدف مفاعل ديمونا، فما هي الحال لو جرى استهداف المنشآت الأخرى الموجودة داخل تل أبيب نفسها، وكم سينتج عن ذلك من خسائر لا تُعد ولا تُحصى. على كل حال، تبدو الأيام المقبلة حُبلى بالكثير من المفاجآت، ما لم تحدث تطورات دراماتيكية تُعيد الهدوء إلى المنطقة، وهو أمر مستبعد حتى الآن، وقد نشهد أحداثاً كنّا نعتقد في يوم من الأيام أنها مجرّد أوهام أو أضغاث أحلام، إلا أنه في هذا الزمان الذي تحاول فيه قوى الشر بسط سيطرتها على كل العالم بقوة الحديد والنار، فإن كل شيء بات مُتوقعاً، وهو ما يجعل الأيام والأسابيع المقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات.