
بنطلحة الدكالي يكتب: القوة..وضبابية الحروب
من أهم نظريات الحرب الشهيرة عند المفكر الاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز تلك المسماة «ضباب الحرب» (Fog oF War)، وتتمثل في أن للحروب مفاجآت لايمكن أن تراها قبل حصولها، لذا تأتي المرونة في تغيير الخطط لمعالجة التغيرات الطارئة وللتقليل من فداحة أخطائها بما في ذلك المستوى السياسي والاستراتيجي العسكري، لأن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية رغم توفر المعلومة الاستخباراتية والتي قد تكون تضليلية في بعض الوقائع والمعطيات.
إن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية، وبالتالي الحرب عند كلاوزفيتز ظاهرة لاخطية تسودها حالة من اللايقين، حيث إن التعامل معها بنفس الأدوات المستخدمة في الظواهر الخطية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، وذلك عكس المدرسة العسكرية التي ترى أن الحرب ظاهرة خطية (Linear) قائمة على ماهو ملموس ويمكن التحكم بمجرياتها، كما أنها قابلة للحساب أي ينظر إليها باعتبارها ظاهرة يمكن التنبؤ بنتائجها، لكن كلاوزفيتز اتهم هؤلاء المنظرين بالدوغمائية والانفصال عن واقع الحروب حيث لايمكن التيقن من أي شئ، وحيث يجب أن تكون الرياضيات قائمة على مجموعة غير محصورة من المتغيرات.
إن التفكير باستنزاف روح «العدو» مثلا عن بعد وبعد ذلك الدخول الآمن والنصر المبين… كثيرا ما يؤدي هذا التفكير إلى الدخول في مستنقع يصعب الخروج منه بل إن آثاره قد تكون مكلفة في العتاد والبشر وفي رسم المستقبلات (Les futurs) وهي نادرا ما تنجح. لقد عَلّمنا التاريخ والوقائع العسكرية أن المملكة المتحدة مثلا خلال الحرب العالمية الثانية تحملت سنوات من القصف العشوائي من الطائرات الألمانية من أجل إجبارها على الاستسلام، لكن البريطانيين حوّلوا ما وصفه رئيس الوزراء وينستون تشرشل بـ«الساعة الأسوأ» إلى أفضل وقت بحوزتهم، كما أن القصف المستمر الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية ضد فيتنام الشمالية لم يجعل شعب هذه الأخيرة يفكر في الاستسلام.
إن الضرب عن بعد يؤدي فعلا إلى تدمير البنى وإزهاق الأرواح، ما يؤدي إلى الإحساس بالعظمة والتفوق، لكن دروس التاريخ تعطينا أكثر من مثال أن الخصم كان يهيأ لفخ منصوب.
إن «ضباب الحرب» يخالف التصور والتصميم المسبق الموغل في الإفراط في الثقة بالقوة والنفوذ لأنه يساهم في ترجيح كفة من ينفث دخانه، إنه نواة الحرب وركن بنيتها، ويبدو أن الأوكرانيين بارعون في هذه «اللعبة» على حد قول جوزيف هنروتينن الباحث في مركز تحليل واستشراف الأخطار الدولية، حيث تناول ضباب هذه الحرب وأشكالها.
إنه في بعض الأحيان يمكن أن يكون ما يأتي بعد الحرب أسوأ من الحرب نفسها، لأن الحرب جزء من سلسلة متصلة تشمل الاقتصاد والتجارة والدبلوماسية والتحالفات وتبديل المواقع… وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. وبذلك يتحدى كلاوزفيتز النظريات السابقة التي كانت تنظر إلى الحرب بوصفها «حدثا يبدأ ثم ينتهي».
إن الاستراتيجية، كما يعرفها المفكر الفرنسي أندري بوفر، هي فن الحوار بين إرادتين متضادتين تستخدمان القوة لحل خلافاتهما، وهذا التعريف يحيل إلى كون الاستراتيجية «فنا» ليخرجها من خانة العلم والإدراك الجازم النظري، ليجعلها تفكيرا إبداعيا يسعى إلى إيجاد الحلول، وفكرا «ميتا معرفي» (Metacognitive) يطرح تساؤلات وفرضيات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا.
إن الاستراتيجية تعلمنا أن نسعى إلى التعامل مع المستقبل غير معتمدين على التفكير المنطقي الصوري الخطي الذي تحدد مقدماته نتائجها اعتمادا على القوة والحشود، بل تعتمد على ضرب من التفكير الانعكاسي (Reflexive thinking) الذي ينطلق من تخيل صورة المستقبل المرغوب فيه إلى الحاضر معتمدة في ذلك على إعداد مجموعة سيناريوهات.
إن التفكير من طرف أي قوة بهزم «العدو» وإلحاق الأذى بقاعدته الاجتماعية وربما تغيير الخرائط وفرض السلم المشروط من أجل خلق واقع جديد، دون استحضار واقع البيئة المحيطة وتكوينها العقدي والإثني… إن ذلك يحيل إلى بيئة ضبابية يقاربها الاستراتيجيون بنظريتين: «نظرية الفوضى» (Chaos theory) ونظرية التعقيد (Complexity theory)، اللتان تصوران بدقة جوهر سلوك البيئة الاستراتيجية المعروف بسماته الأربع: التقلب، التوجس، التعقيد والغموض.
إن ضبابية الحرب حسب كلاوزفيتز هي كالفرق بين الحرب على الورق والحرب الفعلية.., ومن المستحيل في كثير من المواقف والمحطات أن تتطابق الخطط المعدة على الورق في مراكز العمليات مع ما يدور واقعيا على الميدان، لأن الحرب ميدان مجهول ولا يمكن التكهن بصورة حسابية بنتائجها وآثارها على الشعوب حيث تترك ندوبا يصعب إزالتها.., وهي ليست نزهة بطبيعة الحال…
محمد بنطلحة الدكالي أستاذ علم السياسة والسياسات العامة بجامعة القاضي عياض بمراكش

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بلبريس
منذ 32 دقائق
- بلبريس
هل خرق ترامب الدستور لضرب إيران دون تفويض من الكونغرس
بلبريس - ياسمين التازي في فجر إحدى أكثر اللحظات توتراً في السياسة الخارجية الأمريكية، أمر الرئيس دونالد ترامب في يناير 2020 بتوجيه ضربة جوية أسفرت عن مقتل القائد الإيراني قاسم سليماني قرب مطار بغداد، دون الرجوع إلى الكونغرس أو طلب تفويض منه. هذه الخطوة أثارت جدلاً دستورياً عميقاً في الولايات المتحدة، لأنها تمثل نموذجاً صارخاً لصراع التأويلات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية حول صلاحية إعلان الحرب واتخاذ قرارات عسكرية. ينص الدستور الأمريكي في مادته الأولى، القسم 8، بوضوح على أن "إعلان الحرب" من اختصاص الكونغرس وحده، في إطار وظيفة التشريع والرقابة. هذه الصيغة جاءت نتيجة تجربة الآباء المؤسسين مع الملكية المطلقة، حيث سعوا إلى تفادي ترك قرار الحرب بيد شخص واحد. لكن بالمقابل، تمنح المادة الثانية، القسم 2، الرئيسَ صفة "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، وهو تأويل استخدمه العديد من الرؤساء، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لتبرير اتخاذ قرارات عسكرية منفردة باسم "الأمن القومي" أو "الضرورة الدفاعية العاجلة". في حالة ترامب، تم تقديم الضربة كـ"عمل دفاعي استباقي" لحماية الجنود الأمريكيين، دون تقديم مبررات قانونية كافية توضح كيف يتطابق ذلك مع الصلاحيات الدستورية الممنوحة للرئيس في غياب موافقة تشريعية. بعد تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام دون إعلان رسمي للحرب، أقر الكونغرس قانون صلاحيات الحرب لعام 1973 بهدف كبح السلطة العسكرية للرئيس. وينص القانون على إلزام الرئيس بإبلاغ الكونغرس خلال 48 ساعة من تنفيذ أي عمل عسكري، مع ضرورة إنهاء العمليات خلال 60 يوماً ما لم يصدر تفويض من الكونغرس. لكن فعلياً، بقي هذا القانون دون قوة ردعية كافية، إذ تجاهله عدد من الرؤساء السابقين، واعتبروه تقييداً غير دستوري لصلاحياتهم التنفيذية. في حالة ترامب، تم إبلاغ الكونغرس بعد تنفيذ الضربة، لكن ذلك لم يمنع تكرار السؤال: هل استخدام القوة في غياب تفويض هو انتهاك صريح للدستور، أم ممارسة مشروعة لصلاحيات القائد الأعلى؟ تبني ترامب لمنطق "الضربة الاستباقية" يحمل دلالة خطيرة. فباسم منع تهديد مفترض، يبرر الرئيس تجاوز المؤسسة التشريعية، ويخلق سوابق قانونية تسمح بتوسيع السلطة التنفيذية في المستقبل. هذا التوجه يهدد مبدأ الفصل بين السلطات، ويضعف رقابة الكونغرس على قرارات الحرب والسلم، ويقلّص الدور الديمقراطي في اتخاذ القرار السياسي الخارجي. كما أن هذا المنطق لا يستند إلى معايير موضوعية، بل إلى تقدير شخصي قد يكون محاطاً باعتبارات سياسية أو انتخابية، مما يعرض أمن الدولة وسمعتها الدولية لمخاطر لا تحكمها قواعد قانونية واضحة. في العقود الأخيرة، تراجع دور الكونغرس بشكل ملحوظ في مراقبة السياسة الخارجية والعسكرية، إما بسبب الانقسام الحزبي أو الحسابات السياسية. وبدل أن يكون سلطة رقابة وتشريع، بات الكونغرس في كثير من الأحيان يُقحم بعد حدوث الفعل العسكري، لا قبله. هذا التراجع سمح للرؤساء بتوسيع نفوذهم التنفيذي، وخلق ما يشبه "رئاسة عسكرية" تتصرف باسم الدفاع دون مساءلة حقيقية. تجسد واقعة الضربة الأمريكية لإيران دون تفويض من الكونغرس لحظة دستورية حرجة تعيد إلى الواجهة سؤالاً محورياً: من يملك حق اتخاذ قرار الحرب في الولايات المتحدة؟ بين حرفية النصوص وتناقض تأويلاتها، وبين منطق القوة التنفيذية وتراجع السلطة التشريعية، تتآكل قواعد التوازن التي أرساها الدستور الأمريكي. وإذا لم يتم تجديد النقاش الوطني حول هذه المسألة الجوهرية، فقد تصبح قرارات الحرب والسلم بيد فرد واحد، في انزياح خطير عن جوهر الديمقراطية الأمريكية.


الأيام
منذ 2 أيام
- الأيام
بنطلحة الدكالي يكتب: القوة..وضبابية الحروب
من أهم نظريات الحرب الشهيرة عند المفكر الاستراتيجي العسكري كارل فون كلاوزفيتز تلك المسماة «ضباب الحرب» (Fog oF War)، وتتمثل في أن للحروب مفاجآت لايمكن أن تراها قبل حصولها، لذا تأتي المرونة في تغيير الخطط لمعالجة التغيرات الطارئة وللتقليل من فداحة أخطائها بما في ذلك المستوى السياسي والاستراتيجي العسكري، لأن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية رغم توفر المعلومة الاستخباراتية والتي قد تكون تضليلية في بعض الوقائع والمعطيات. إن ضباب الحرب يعكس عدم مطابقة الوقائع لما هو منصوص عليه في الخطة الحربية، وبالتالي الحرب عند كلاوزفيتز ظاهرة لاخطية تسودها حالة من اللايقين، حيث إن التعامل معها بنفس الأدوات المستخدمة في الظواهر الخطية يمكن أن يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، وذلك عكس المدرسة العسكرية التي ترى أن الحرب ظاهرة خطية (Linear) قائمة على ماهو ملموس ويمكن التحكم بمجرياتها، كما أنها قابلة للحساب أي ينظر إليها باعتبارها ظاهرة يمكن التنبؤ بنتائجها، لكن كلاوزفيتز اتهم هؤلاء المنظرين بالدوغمائية والانفصال عن واقع الحروب حيث لايمكن التيقن من أي شئ، وحيث يجب أن تكون الرياضيات قائمة على مجموعة غير محصورة من المتغيرات. إن التفكير باستنزاف روح «العدو» مثلا عن بعد وبعد ذلك الدخول الآمن والنصر المبين… كثيرا ما يؤدي هذا التفكير إلى الدخول في مستنقع يصعب الخروج منه بل إن آثاره قد تكون مكلفة في العتاد والبشر وفي رسم المستقبلات (Les futurs) وهي نادرا ما تنجح. لقد عَلّمنا التاريخ والوقائع العسكرية أن المملكة المتحدة مثلا خلال الحرب العالمية الثانية تحملت سنوات من القصف العشوائي من الطائرات الألمانية من أجل إجبارها على الاستسلام، لكن البريطانيين حوّلوا ما وصفه رئيس الوزراء وينستون تشرشل بـ«الساعة الأسوأ» إلى أفضل وقت بحوزتهم، كما أن القصف المستمر الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية ضد فيتنام الشمالية لم يجعل شعب هذه الأخيرة يفكر في الاستسلام. إن الضرب عن بعد يؤدي فعلا إلى تدمير البنى وإزهاق الأرواح، ما يؤدي إلى الإحساس بالعظمة والتفوق، لكن دروس التاريخ تعطينا أكثر من مثال أن الخصم كان يهيأ لفخ منصوب. إن «ضباب الحرب» يخالف التصور والتصميم المسبق الموغل في الإفراط في الثقة بالقوة والنفوذ لأنه يساهم في ترجيح كفة من ينفث دخانه، إنه نواة الحرب وركن بنيتها، ويبدو أن الأوكرانيين بارعون في هذه «اللعبة» على حد قول جوزيف هنروتينن الباحث في مركز تحليل واستشراف الأخطار الدولية، حيث تناول ضباب هذه الحرب وأشكالها. إنه في بعض الأحيان يمكن أن يكون ما يأتي بعد الحرب أسوأ من الحرب نفسها، لأن الحرب جزء من سلسلة متصلة تشمل الاقتصاد والتجارة والدبلوماسية والتحالفات وتبديل المواقع… وكل التفاعلات الأخرى التي تقع بين الشعوب والحكومات. وبذلك يتحدى كلاوزفيتز النظريات السابقة التي كانت تنظر إلى الحرب بوصفها «حدثا يبدأ ثم ينتهي». إن الاستراتيجية، كما يعرفها المفكر الفرنسي أندري بوفر، هي فن الحوار بين إرادتين متضادتين تستخدمان القوة لحل خلافاتهما، وهذا التعريف يحيل إلى كون الاستراتيجية «فنا» ليخرجها من خانة العلم والإدراك الجازم النظري، ليجعلها تفكيرا إبداعيا يسعى إلى إيجاد الحلول، وفكرا «ميتا معرفي» (Metacognitive) يطرح تساؤلات وفرضيات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا. إن الاستراتيجية تعلمنا أن نسعى إلى التعامل مع المستقبل غير معتمدين على التفكير المنطقي الصوري الخطي الذي تحدد مقدماته نتائجها اعتمادا على القوة والحشود، بل تعتمد على ضرب من التفكير الانعكاسي (Reflexive thinking) الذي ينطلق من تخيل صورة المستقبل المرغوب فيه إلى الحاضر معتمدة في ذلك على إعداد مجموعة سيناريوهات. إن التفكير من طرف أي قوة بهزم «العدو» وإلحاق الأذى بقاعدته الاجتماعية وربما تغيير الخرائط وفرض السلم المشروط من أجل خلق واقع جديد، دون استحضار واقع البيئة المحيطة وتكوينها العقدي والإثني… إن ذلك يحيل إلى بيئة ضبابية يقاربها الاستراتيجيون بنظريتين: «نظرية الفوضى» (Chaos theory) ونظرية التعقيد (Complexity theory)، اللتان تصوران بدقة جوهر سلوك البيئة الاستراتيجية المعروف بسماته الأربع: التقلب، التوجس، التعقيد والغموض. إن ضبابية الحرب حسب كلاوزفيتز هي كالفرق بين الحرب على الورق والحرب الفعلية.., ومن المستحيل في كثير من المواقف والمحطات أن تتطابق الخطط المعدة على الورق في مراكز العمليات مع ما يدور واقعيا على الميدان، لأن الحرب ميدان مجهول ولا يمكن التكهن بصورة حسابية بنتائجها وآثارها على الشعوب حيث تترك ندوبا يصعب إزالتها.., وهي ليست نزهة بطبيعة الحال… محمد بنطلحة الدكالي أستاذ علم السياسة والسياسات العامة بجامعة القاضي عياض بمراكش


المغرب اليوم
منذ 2 أيام
- المغرب اليوم
عبدالله الثاني ورفض الاستسلام للقوّة
ليس من وصف دقيق لما يشهده العالم والمنطقة أكثر من الوصف الذي قدّمه الملك عبدالله الثاني، في خطابه الأخير أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ. وضع العاهل الأردني، الذي اثبتت الأحداث والتطورات العالميّة قدرته على استشفاف المستقبل، النقاط على الحروف. قام عملياً بمحاولة متواضعة لوضع العالم أمام مسؤولياته مركّزاً على الدور الأوروبي والدولي في العمل من أجل السلام والعدل. لا يعود التوجه إلى أوروبا إلى قرب القارة العجوز جغرافياً من المنطقة فحسب، بل إلى وجود تجربة أوروبية لا يمكن تجاهلها أيضاً. إنّها تجربة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. قال عبدالله الثاني، موجهاً كلامه إلى الّنواب الأوروبيين: «بعد الحرب العالمية الثانية، اختارت أوروبا إعادة البناء. ليس لمدنها فقط، بل للركائز التي تأسست عليها، إذ صممت شعوب أوروبا على ترك الماضي خلفها وبناء عصر جديد من السلام. اختار الأوروبيون الكرامة الإنسانيّة عوضاً عن الهيمنة والقيم عوضا عن الانتقام، والقانون عوضاً عن القوة والتعاون عوضاً عن الصراع». كانت هناك حاجة لدى العاهل الأردني لتقديم وصف دقيق لحال العالم، لكنّ المهمّ، بالنسبة إليه، عدم الاكتفاء بالوصف... مهما بلغت دقته. أصرّ على تأكيد وجود «قيم تجمعنا». أشار إلى أن العديد من هذه القيم «متجذّرة في أدياننا: الإسلام والمسيحية واليهودية». هذه القيم موجودة «لتقيم الرحمة والعدل والمساواة». كان الخطاب دعوة إلى العودة إلى القيم، كما كان صرخة رجل يتألم في ضوء المأساة التي تشهدها غزّة حيث «إذا فشل المجتمع الدولي بالتصرف بشكل حاسم، فإننا نصبح متواطئين في تعريف معنى أن تكون إنساناً». خلاصة الخطاب الذي القاه عبدالله الثاني، أن الحاجة إلى البحث عن مخرج بدل الاستسلام للعنف ومنطق القوة. لذلك يؤكد العاهل الأردني المرة تلو الأخرى أنّ القوة ليست حلاً وأنّ الحاجة إلى حلول سياسية قبل أي شيء آخر، خصوصاً في وقت تزداد الحرب الإيرانيّة- الإسرائيلية ضراوة. هناك إدراك أردني واضح لخطورة المشروع التوسعي الإيراني في المنطقة. عانت المملكة الأردنية الهاشمية دائماً من السعي الإيراني إلى التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة وإيجاد حال من عدم الاستقرار فيها. ثمة محاولة أردنية متواضعة قام بها عبدالله الثاني، عن طريق خطابه أمام البرلمان الأوروبي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والخروج من الوضع الكارثي القائم. قال بكل بساطة: «الآن نحن على مفترق طرق آخر حاسم في تاريخنا، مفترق طرق يتطلب الاختيار بين السلطة والمبدأ بين حكم القانون وحكم القوة». أوضح أن «الأمر لا ينطبق على غزّة فقط، فهذه ليست مجرّد لحظة سياسية أخرى لتسجيل المواقف، بل إنّه صراع في شأن هويتنا كمجتمع عالمي في الحاضر والمستقبل. من المرجح أن يكون هذا العام هو عام القرارات المحوريّة لعالمنا بأسره. سيكون للقيادة الأوروبيّة دور حيوي في اختيار الطريق الصحيح ويمكنكم الاعتماد على الأردن كشريك قويّ لكم». نعم الأردن شريك قوي. تكمن أهمية عبدالله الثاني، في أنّه لم يفقد يوماً البوصلة السياسية التي تقود إلى الأمن والاستقرار مستقبلاً. في صيف 2002، حذر عبدالله الثاني، الرئيس الأميركي (وقتذاك) جورج بوش الابن، من مغامرة العملية العسكرية في العراق. لم يستمع بوش الابن إلى النصيحة. ما لبث العاهل الأردني أن حذر من النتائج المترتبة على تسليم العراق على صحن من فضّة إلى إيران. كان ذلك في حديث إلى صحيفة «واشنطن بوست» في أكتوبر 2004. تحدّث وقتذاك عن سيطرة «الجمهوريّة الإسلاميّة» على بغداد ودمشق وبيروت. تبيّن أنّه كان على حق في كلّ كلمة قالها. قبل ما يزيد على 21 عاماً، لم يكن هناك من يريد الاستماع إلى عبدالله الثاني، الذي ينادي منذ سنوات طويلة، قبل حرب غزّة الأخيرة، بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة. يعرف العاهل الأردني أن لا استقرار في المنطقة من دون هذه الدولة، بموجب شروط معيّنة واضحة في طبيعة الحال تضمن أن تكون دولة مسالمة. هل من يريد الاستماع الآن؟ الكلام موجه حتماً إلى الجانب الإسرائيلي، إلى بنيامين نتنياهو بالذات، أي إلى رجل لن يذهب بعيداً في السياسة في حال أصرّ على أن الحروب المستمرة تخدم الاحتلال وتكرّسه على حساب شعب موجود على أرض فلسطين التاريخية ولا يمكن إزاحته منها... بغض النظر عمّا ستؤدي إليه الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية من نتائج!