
فإذا فرغت فانصب!!
الفراغ نعمة عظمى حري بالعبد اغتنامه فيما يفيده، وقد أرشد المولى سبحانه نبيه بقوله سبحانه: {فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب}، وفي الصحيح: 'نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ'، ويقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: 'اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك'.
يقول ابن القيم رحمه الله: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبيّن حلو الثمار من مرها. فكم كان الفراغ سببا في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره عند عدم استثماره، فهو منة ونعماء، ولكن إذا استغل في معصية الله فهو نقمة وبلاء.
إن الترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه؛ بل قد يكون مطلوبا أحيانا لأغراض شرعية، كما في حديث حنظلة: قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رَأْيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'وما ذاك؟' قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأْي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة'.
فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم بالوسائل المباحة في ذلك شرعا، أما أن يُستغل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ فذاك ما لا ينبغي.
لقد كان السلف رضوان الله عليهم أحرص الناس على كسب الوقت وشغله بجلائل الأعمال، مما أورثهم حضارة عريقة الجذور، آتت أكلها علما وفتحا، وعزا ومجدا. يقول الحسن البصري رحمه الله: 'أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم'، ونقل عن عامر بن قيس أحد التابعين أن رجلا قال له: تعال أكلمك، قال: أمسك الشمس، يعني أوقفها لي واحبسها عن المسير لأكلمك، فإن الزمن سريع المضي ولا يعود. ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: 'إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما'.
وكانوا يجتهدون في الترقي من حال إلى حال خيرا منها، وفي هذا يقول بعضهم: 'من كان يومه كأمسه فهو مغبون'، ويقول آخر: 'من علامة المقت ضياع الوقت'، وقال بعضهم: 'من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه'.
تلك شذرات عبقة مما كان عليه صالحو الأمة، فقد كان الوقت عندهم أغلى من كل جوهر نفيس، بل هو الحياة كلها، وذلك لأن الماديات يمكن استرجاعها، بينما الثانية من الزمن لا يمكن أن تعود، وكل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، وقديما قيل: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
منذ ساعة واحدة
- النهار
مركز الأثير للإصغاء.. إحترافية.. سرية وخدمة على أعلى مستوى
يتضمن مركز الأثير للإصغاء طاقم من المرشدين والمرشدات. يسهرون على تحقيق مساعيكم، ويعملون على نيل آمالكم. وخصّص مركز الأثير للإصغاء أرقام هواتف 3800-3801-3802 من الثابت ومتعاملي أوريدو جيزي وموبليس. بـ 105 دج للدقيقة مع احتساب كل الرسوم. كما يتضمن المركز عدة أركان يمكن للمتصلين والمتتبعين الإستفادة منها وهي: ركن قلوب حائرة لديك هاجس التفكير والحيرة.. تعاني من ضغوطات واضطرابات أفقدتك الشغف في الحياة.. مركز الأثير للإصغاء يفتح أبوابه من جديد مع طاقم من المستشارين والمستشارات يسهرون على راحتكم. ويعملون من أجل تجديد الآمال في أنفسكم وزرع السكينة في أرواحكم بكل حب وبسرية مطلقة نحن دوما في الخدمة.. لمشاكلكم الأسرية.. الزوجية منها وكل ما تعلق بتربية الأولاد وطريقة التعامل معهم. دليلكم الدائم مركز الأثير للإصغاء سر السعادة وسبيل الطمأنينة بإذن الله.. ركن أدم وحواء لتحقيق حلم الحياة في الإستقرار وإعمار الدار.. مركز الأثير يقدم لكم خدماته على خطى سنوات من النجاح. أثمرت وبتوفيق من الله في الجمع بين العديد من المتصلين تحت سقف المودة والرحمة. فلكل جاد يقصد الحلال، معنا فرصة إتمام نصف الدين بعروض زواج من مختلف الولايات ولكل الأعمار.. ركن الفتاوى الدينية لكل الحيارى في أمور دينكم ودنياكم، لأسئلتكم اليومية واعتمادا على الكتاب والسنة النبوية. فتاوى تنير الدروب وتريح القلوب، مع مجموعة من رجال الدين والمختصين في الفتوى والدعوى في خدمتكم يجيبون على كل أسئلتكم وانشغالاتكم. إستشارات قانونية لديكم نزاعات في العدالة.. أسئلة قانونية تبحثون لها عن أجوبة، مركز الأثير يمنحكم الفرصة ويسهل أمامكم المهمة للعثور على الإستشارات القانونية المناسبة، فلا تترددوا واتصلوا بنا. هدفنا الوحيد أن نبلغ معكم كل مفيد وجديد.. وإرضاؤكم هو ما نبتغي ونريد


الخبر
منذ 5 ساعات
- الخبر
فإذا فرغت فانصب!!
الفراغ نعمة عظمى حري بالعبد اغتنامه فيما يفيده، وقد أرشد المولى سبحانه نبيه بقوله سبحانه: {فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب}، وفي الصحيح: 'نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ'، ويقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: 'اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك'. يقول ابن القيم رحمه الله: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبيّن حلو الثمار من مرها. فكم كان الفراغ سببا في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره عند عدم استثماره، فهو منة ونعماء، ولكن إذا استغل في معصية الله فهو نقمة وبلاء. إن الترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه؛ بل قد يكون مطلوبا أحيانا لأغراض شرعية، كما في حديث حنظلة: قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رَأْيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'وما ذاك؟' قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأْي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة'. فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم بالوسائل المباحة في ذلك شرعا، أما أن يُستغل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ فذاك ما لا ينبغي. لقد كان السلف رضوان الله عليهم أحرص الناس على كسب الوقت وشغله بجلائل الأعمال، مما أورثهم حضارة عريقة الجذور، آتت أكلها علما وفتحا، وعزا ومجدا. يقول الحسن البصري رحمه الله: 'أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم'، ونقل عن عامر بن قيس أحد التابعين أن رجلا قال له: تعال أكلمك، قال: أمسك الشمس، يعني أوقفها لي واحبسها عن المسير لأكلمك، فإن الزمن سريع المضي ولا يعود. ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: 'إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما'. وكانوا يجتهدون في الترقي من حال إلى حال خيرا منها، وفي هذا يقول بعضهم: 'من كان يومه كأمسه فهو مغبون'، ويقول آخر: 'من علامة المقت ضياع الوقت'، وقال بعضهم: 'من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه'. تلك شذرات عبقة مما كان عليه صالحو الأمة، فقد كان الوقت عندهم أغلى من كل جوهر نفيس، بل هو الحياة كلها، وذلك لأن الماديات يمكن استرجاعها، بينما الثانية من الزمن لا يمكن أن تعود، وكل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، وقديما قيل: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. والله ولي التوفيق. *إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي


الشروق
منذ 16 ساعات
- الشروق
الكنز الثمين
عندما تطرق كلمة 'الكنز' أّذن أي إنسان يتبادر إلى ذهنه كل ما هو غال ونفيس كالذهب والفضة وما في حكمهما من نفيس المعادن وأغلاها. ولكن 'الكنز' عند أولى النّهى، وذوي الحجر ليس هو هذا، ولكنه شيء آخر لا يقدره أكثر الناس تقديرا حقيقيا، لأنه لا يوزن بميزان ولا يكال بمكيال. من هؤلاء أرباب الحجى الإمام المرتضى عبد الحميد ابن باديس – عليه الرحمة والرضوان – فقد كان لا يرسل الكلام على عواهنه، ولم يكن يمارس ترفا فكريا، إذ لم يعتبر الكنز كما يعتبره أكثر الناس قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، ولكن كنز الكنوز عند الإمام هو 'عمر الإنسان'. يقول الإمام: 'عمر الإنسان أنفس كنز يملكه، ولحظاته محسوبة عليه، وكل لحظة تمر معمورة بعمل مفيد فقد أخذ حظه منها وربحها، وكل لحظة تمر فارغة فقد غبن حظه منها وخسرها'، (ابن باديس: مجالس التذكير من كلام البشير النذير، ص 138). ولأهمية هذا الوقت فقد أقسم الله – عز وجل – بأجزائه تنبيها وتنويها بكله.. فأقسم بـ'الفجر، والضحى، والليل، والصبح، والنهار' وقد جهل بعض المستشرقين هذا الأسلوب القرآني الذي يعنى بالجزء فما بالك بالكل، فقالوا ما معناه إن القرآن يخلو من الحديث عن الزمن، رغم أن سورة تحمل اسم العصر، الذي هو الزمان عند بعض المفسرين. وقد قال الإمام الشافعي – رضي الله عنه – ما معناه لو لم ينزل من القرآن الكريم إلا هذه السورة لكفت. ولهذه الأهمية أيضا ورد في حديث لمن لا ينطق عن الهوى أن مما يحاسب عليه المرء يوم القيامة ماذا عمل بشبابه وبعمره عموما. وقد وفق الأستاذ مالك ابن نبي – رحمه الله – عندما اعتبر 'الوقت' أحد 'شروط النهضة'، وجعله ثالث ثلاثة هي الإنسان والتراب والوقت. فكل منتوج حضاري من عمل إنسان أنتجه، وهو من تراب أنتج منه، وهو من وقت قضي في إنتاجه. لقد استغل الإمام ابن باديس وقته أحسن استغلال، وعمره بالصالح من الأعمال، إذ كان يدرس خمسة عشر درسا يوميا كما شهد بذلك تلميذه الشيخ مبارك الميلي، ثم يذهب إلى مقر جريدة 'الشهاب' ليكتب مقالا، أو يجيب عن سؤال، أو يجوس خلال الجزائر منبها قومه، مذكرا ناسيهم، موقظا ضمائرهم، باثا الأمل في نفوسهم. كان الانجليز – ومايزالون – يرددون في أمثالهم إن الوقت هو مال، وقال حكماؤنا: كل مفقود يمكن استرجاعه إلا الوقت. ذكرت نفسي وإخواني بهذا ونحن على أبواب العطلة الصيفية حتى 'لا نقتل الوقت'، ونقضيها كلها في مضغ الكلام الذي لا يسمن ولا يغني، وقد يكب صاحبه على منخره في جهنم عياذا بالله.