logo
"بصل بصل.. بما حصل"

"بصل بصل.. بما حصل"

جريدة الرؤيةمنذ يوم واحد

خالد بن سعد الشنفري
في طفولتي في أواخر الستينات، كنت أذهب أحيانًا إلى سوق ماركت الحافة للخضروات والأسماك واللحوم، وأفترش الأرض مقابل السبلة المخصصة للباعة. كان أحد هذه المنتجات التي أبيعها البصل الأخضر. كانت الصدف أحيانًا تضعني بجوار بسطة رجل أربعيني ظريف، كان مغتربًا بأحد الدول الخليجية النفطية للعمل وكسب الرزق. وعندما عاد إلى الوطن بعد اغترابه لمدة خمس سنوات لزيارة أهله، مع نية العودة بالطبع للسفر، صدر قرار منع السفر للخارج بعد أن طُوِّقت صلالة بسور حديدي، وذلك تزامنًا مع زيادة أنشطة الثوار في الجبال، مما اضطره لبيع الخضار.
كان ينادي على معروضاته بصوت جهوري: "طماطم فلفل خيار و... بصل بصل خذ البصل بما حصل"، كان المشترون يتجهون ناحيتنا للشراء، واستفدت بدوري من ذلك؛ حيث يجاملني البعض لصغر سني ويشترون مني، صدق المثل القائل: "جاور السعيد تسعد".
راقت لي جملة جاري هذه التسويقية التي لم أعرف كُنهها إلا بعدما كبرت، ذلك أن البصل الأخضر إذا لم يُسوَّق في نفس يوم قطفه لا يمكنك تسويقه في اليوم التالي، خصوصًا أنه لم يكن لدينا حينها كهرباء ولا ثلاجات لحفظه؛ فتشجَّعت وتحمَّست معه، وصرت كلما يسكت عن المناداة لسبب ما أبدأ أنا بالمناداة بدلًا عنه، وكان يبتسم لي مشجِّعًا.
لا أنوي بالطبع أن أتكلم في هذا المقال عن طفولتي والبصل الأخضر، لكنني استعدت بعضًا من هذه الذكريات بعد أن قرأت إعلانًا لأحد مزارعي نجد عن البصل، ولكن هذه المرة بصل مزارع نجد الأحمر، وانتشار هذا الإعلان في وسائل التواصل لأنه كان ملفتًا.
مزارع نجد ظفار تعتبر اليوم بجدارة أحد أهم مناطقنا الزراعية الحالية والمستقبلية للأمن الغذائي. سأنقل لكم الإعلان كما هو حرفيًّا:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. توجد عندنا شاحنة 11 طناً من البصل العماني، من مزارع النجد، وبعد قرار الوزارة فتح باب الاستيراد، نزل السعر دون التكلفة، وإدخال المستورد، فقرر توزيع البصل مجانًا للمواطنين.
المنتج العماني محارَب من قبل التجار ومن قبل أصحاب القرار. سعر البصل الهندي للكيلو 250 بيسة، واليمني 180 بيسة، أما المنتج المحلي لم يعطوني حتى 140 بيسة للكيلو!
من الأفضل أن أقوم بتوزيعه لا بيعه وأبخسه، ثم يقومون ببيعه أكثر على المواطن والسكان.
التاريخ 9/6/2025 الساعة 11:10 صباحًا. الموقع خلف نادي النصر مقابل مطعم الرباط قديم". انتهى.
من مفارقات الصدف أنني مساء هذا اليوم الأربعاء 18 يونيو، وقبل أن تقفز فكرة هذا المقال إلى ذهني، اتصل بي أحد الأصدقاء وهو من أصحاب إحدى هذه المزارع، وأخبرني بأنه في ثمريت، طلع للتو من اجتماع رسمي مثير هناك بخصوص عقود انتفاع هذه الأراضي، وسيتجه من هناك إلى مزرعته بالنجد، فيما إذا أردت الالتحاق به لقضاء يومين هناك في المزرعة، لأنه يعرف مدى حبي لذلك؛ فلحقت به لأنني فعلًا كنت أريد أن أعرف ما تمخض عنه هذا الاجتماع المثير. وهناك، اطلعني صاحبي على أنهم أُبلغوا بأن أمامهم فترة شهر فقط لا غير لتوقيع عقود الانتفاع، التي كانوا قد حُددت لهم فيها مسبقًا فترة سماح لمدة خمس سنوات، يلتزمون بعدها مباشرة بدفع إيجار للأرض بمبلغ 50 ريالًا للفدان الواحد للمئة فدان الأولى، و5 ريالات لما زاد عن ذلك من مساحة، أي أن من استزرع 100 فدان يتوجب عليه أن يدفع 5 آلاف ريال سنويًا.
إعلان البصل أعلاه يشرح ذاته؛ بل ويشرح معاناة هؤلاء المزارعين المخلصين من شبابنا، الذين لا يحتاج بدورهم لشرح أكثر؛ فهي قديمة، ومع ذلك لا زالوا مستمرين رغم كل الصعوبات والمعوقات، ولكن لا نرى ضيرًا من التكرار، فالأمر وأهميته يستدعيان ذلك.
هؤلاء يعتبرون أبطالًا بحق، ومشكلاتهم ليست بجديدة على أحد، ومستمرة من أكثر من 30 عامًا؛ بل ناهز بعضها الأربعين عامًا، وقد قيل وكتب عنها الكثير، وشخصيًا كتبت عنها قديمًا عدة مقالات في صحف إلكترونية ووسائل تواصل، ولكن لا حياة لمن تنادي. هل نرتضي هكذا مصير لهؤلاء الشباب المكافحين، وبعد أن أصبحت منتجاتهم تتفوق جودةً على المستورد، وتغطي أسواقنا من مختلف أجود المنتجات؛ بطيخ، بطاطس، شمام، بصل أحمر، رُطب، وحتى القمح، وقائمة تطول من منتجات نعرفها جميعًا بالاسم بأنها منتجات مزارع نجد ذات الجودة العالية، الذين جربوا وثابروا ونجحوا بجدارة في انتخاب مزروعات داعمة لأمننا الغذائي.
أعداد هذه المزارع يزيد على الألف مزرعة، كانت مجرد سيوح جرداء، حوَّلها هؤلاء الأبطال بهممهم العالية وجهودهم الجبارة وأموالهم الخاصة إلى جنانٍ خضراء وارفة الظلال وسط الصحراء، منهم من كان مقتدرًا وصرف من أمواله، ومنهم من اضطر لبيع كل ما يملك لذلك، ومنهم من توقف، ومنهم من لا يزال ينتظر.
صحيحٌ سمعنا عن مزارعين في بعض الدول المعروفة بأنها زراعية بامتياز، أنهم يعدمون بعض الإنتاج للمحافظة على استقرار سعره، ولكن هيهات لشبابنا فعل مثل ذلك ولو كانت بهم خصاصة، وبالتالي وزعوا إنتاجهم بالمجان، وهذه ليست حالة نادرة؛ بل هناك العديد منهم نعرف بعضهم بالاسم أو سمعنا عنه، وما صاحب هذا الإعلان أعلاه إلا واحدًا منهم.
يشكو هؤلاء المزارعون، وهم ما هم عليه من مصاعب، تتمثل في بُعد مواقع مزارعهم عن الأسواق، وقساوة الطقس هناك، بالإضافة إلى معيقات أخرى عديدة، ليس أقلها ارتفاع أسعار الكهرباء عليهم، والآن يأتي إنذارهم فجأة وقسريًا بما كانوا يخشونه، وهو تحديد مدة شهر لهم لتوقيع عقود انتفاع لمزارع كانوا قد عمّروها واستزرعوها واستقروا بها استقرارًا مطمئنًا لعشرات السنين، وبعضهم قد ورثها من أب أو حتى جد، ويحافظون على هذا الإرث إكرامًا لذكرى موتاهم، برغم صعوبة ذلك. علمًا بأن القواعد العامة شرعًا وقانونًا تعتد بوضع اليد على الأرض إذا استمر لمدة زمنية دون أن ينازعه عليها أحد من الغير، فما بالنا إذا كان هذا الغير هو حكومتك، وأن الأمر يتعلق بتحقيق غاية سامية، ألا وهي الأمن الغذائي للبلد، ناهيك عن جوانب أخرى أخلاقية وإنسانية للموضوع.
هناك جانب آخر مهم في الأمر، كان أولى وأجدى تحققه في حقهم من سنين، ولكن ذلك لم يحصل، ويتمثل في دور الجهات الرسمية المختصة بالزراعة المفترضة في كل دول العالم لمزارعيها، من حيث إرشاد هؤلاء المزارعين فيما يستحسن أن يزرعوا في كل موسم حسب دراسة السوق، وكذلك تهيئة التسويق لمنتجاتهم، أسوة بما كانت عليه الهيئة العامة لتسويق المنتجات الزراعية سابقًا، التي كانت تستقبل منتجات المزارعين وتشتري منهم وتقوم بدورها بالتسويق داخل وخارج البلد، والتي بعد إلغائها للأسف الشديد اضطر أهلنا من المزارعين لهجر مزارعهم وتأجيرها للمُزارِع الوافد، الذي كان يعمل لديهم أساسًا فيها؛ فالمُزارِع ليس تاجرًا بطبعه. إلى جانب ضرورة حمايتهم من المنتجات المستوردة المنافسة مع وجود المحلي في موسمه.
إن توزيع هؤلاء المزارعين لمنتوجاتهم بالمجان، لو توفرت لهم على سبيل المثال معدات حصاد وفرز وتغليف حديثة، ولو بالإيجار غير الهادف للربح الكبير، سيمكنهم ذلك لا شك من تقليل الفاقد من إنتاجهم، وبالتالي مع عوامل أخرى تقليل كلفة المنتج، وبالتالي يمكنهم بيعه ولو بسعر أقل مع تحقيق هامش ربح. وموضوع البصل (ينطبق على القمح أيضًا) ليس إلا على سبيل المثال لا الحصر، أيضًا فيه فاقد لديهم بنسبة 20% على الأقل نتيجة تقطعه أو خدشه وعدم إمكانية بيعه، وذلك بسبب المعدات التقليدية البسيطة المتوفرة حاليًا، أو الحصاد اليدوي المكلف، والذي يتطلب وفرة كبيرة في العمالة غير المتوفرة، مع أجور مرتفعة، وتعرضه للفساد لبطء وطول فترة الحصاد مع حرارة الجو، وهذا ما يحدث حاليًا مع نسبة فاقدهم الكبيرة. كذلك إعفاء البذور والأسمدة والمبيدات من الضريبة والقيمة المضافة أصبح ضرورة لا بد منها أيضًا لهم في سبيل النهوض بالزراعة والأمن الزراعي.
عوامل كثيرة لا يمكننا حصرها هنا في هذا المقال القصير تراكمت بدلًا من أن نعمل على حل ولو بعضها مع الزمن، لأنها ستعمل دون شك على تقليل تكاليفهم في الإنتاج، وأصبح هؤلاء المزارعون في أمسّ الحاجة اليوم للوقوف بجانبهم، لا إضافة عراقيل ومعيقات أمامهم، وذلك حتى لا نرى قريبًا، لا سمح الله، مزارع نجد وقد هُجرت، وحل الوافد بها كما حصل في مزارع المدن، أو قد أصبحت أثرًا بعد عين، أو أعجاز نخل خاوية.
نداء إلى كل جهات الاختصاص، وكل مسؤول وذو علاقة بصورة أو بأخرى في أمر مزارع نجد ظفار وأصحابها، مراعاة جوانب عديدة تراكمت عليهم مع الزمن، وهم في أمس الحاجة للوقوف معهم، ولو لخاطر أمننا الغذائي حاليًا ومستقبلًا.
ومع تقديرنا وشكرنا للجهود التي تمخضت أخيرًا، وبعد طول سنين، من الإعلان عن إنشاء المركز المتكامل لتجميع وفرز وتسويق المنتجات الزراعية في النجد، والمتوقع استكماله في أبريل 2026، إلا أن الكثير من هؤلاء المزارعين لا زالوا لا يخفون توجسهم من حيث إن الشركة لن تقوم بالشراء منهم مثلما كانت عليه الهيئة سابقًا؛ بل ستقوم بالتسويق فقط، وإنها شركة ربحية في الأساس، ستتعامل بمنطق الربح والخسارة. وكنا نتمنى من هذه الشركة، قبل أن تتدخل وزارة الإسكان من استدعائهم وإنذارهم قسرًا بالتوقيع على عقود الانتفاع، أن تجلس معهم وتطلعهم على خططها وأهدافها لتطمئن قلوبهم، وأنه سيكون لها دور واضح، ليس باستقبال وتسويق المنتجات، بل بتزويدهم بالإرشادات والنصح فيما يزرعون، والكميات المتوقع استيعابها في السوق في كل موسم. وعلى المزارعين أيضًا، بدورهم ممثلين في جمعيتهم، تزويدها بالمعلومات الدقيقة حتى تتمكن من استقصاءاتها، وانعكاس ذلك إيجابًا على الجميع، ونتمنى لها التوفيق والسداد.
لقد أصبح وجود قانون ينظم هذه الأراضي، أسوة بقانون الإسكان الريفي، ضرورة ملحّة ليعرف الجميع ما له وما عليه، فنحن أصبحنا دولة قانون.
لا نعرف الهدف من تحديد 50 ريالًا إيجار الفدان للمئة فدان الأولى، و5 ريالات فيما زاد عن ذلك لهذه الأراضي الزراعية. نحسب أن مبلغ 50 ريالًا مُغالى فيه كثيرًا، وكان من المناسب، تقديرًا لكل ما تقدم، أن يُحدد المبلغ بـ5 ريالات للفدان لكل المساحة دون تفريق بين المساحات. أما عن فترة السماح الحالية من الإيجار لمدة 5 سنوات، فإنها تعتبر معقولة.
تبقى جانب لا يقل أهمية، وهو إمكانية تمليك ولو جزء من هذه الأراضي للذين استمروا في زراعتها لسنوات طويلة، تشجيعًا واطمئنانًا لهم، فقد تعلقت آمالهم بها، وكلنا ثقة في حكومتنا الرشيدة التي عودتنا على كرمها، ونحن في ظل القيادة الحكيمة لسلطان التجديد، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله وأبقاه لعُمان وشعبها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"بصل بصل.. بما حصل"
"بصل بصل.. بما حصل"

جريدة الرؤية

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الرؤية

"بصل بصل.. بما حصل"

خالد بن سعد الشنفري في طفولتي في أواخر الستينات، كنت أذهب أحيانًا إلى سوق ماركت الحافة للخضروات والأسماك واللحوم، وأفترش الأرض مقابل السبلة المخصصة للباعة. كان أحد هذه المنتجات التي أبيعها البصل الأخضر. كانت الصدف أحيانًا تضعني بجوار بسطة رجل أربعيني ظريف، كان مغتربًا بأحد الدول الخليجية النفطية للعمل وكسب الرزق. وعندما عاد إلى الوطن بعد اغترابه لمدة خمس سنوات لزيارة أهله، مع نية العودة بالطبع للسفر، صدر قرار منع السفر للخارج بعد أن طُوِّقت صلالة بسور حديدي، وذلك تزامنًا مع زيادة أنشطة الثوار في الجبال، مما اضطره لبيع الخضار. كان ينادي على معروضاته بصوت جهوري: "طماطم فلفل خيار و... بصل بصل خذ البصل بما حصل"، كان المشترون يتجهون ناحيتنا للشراء، واستفدت بدوري من ذلك؛ حيث يجاملني البعض لصغر سني ويشترون مني، صدق المثل القائل: "جاور السعيد تسعد". راقت لي جملة جاري هذه التسويقية التي لم أعرف كُنهها إلا بعدما كبرت، ذلك أن البصل الأخضر إذا لم يُسوَّق في نفس يوم قطفه لا يمكنك تسويقه في اليوم التالي، خصوصًا أنه لم يكن لدينا حينها كهرباء ولا ثلاجات لحفظه؛ فتشجَّعت وتحمَّست معه، وصرت كلما يسكت عن المناداة لسبب ما أبدأ أنا بالمناداة بدلًا عنه، وكان يبتسم لي مشجِّعًا. لا أنوي بالطبع أن أتكلم في هذا المقال عن طفولتي والبصل الأخضر، لكنني استعدت بعضًا من هذه الذكريات بعد أن قرأت إعلانًا لأحد مزارعي نجد عن البصل، ولكن هذه المرة بصل مزارع نجد الأحمر، وانتشار هذا الإعلان في وسائل التواصل لأنه كان ملفتًا. مزارع نجد ظفار تعتبر اليوم بجدارة أحد أهم مناطقنا الزراعية الحالية والمستقبلية للأمن الغذائي. سأنقل لكم الإعلان كما هو حرفيًّا: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. توجد عندنا شاحنة 11 طناً من البصل العماني، من مزارع النجد، وبعد قرار الوزارة فتح باب الاستيراد، نزل السعر دون التكلفة، وإدخال المستورد، فقرر توزيع البصل مجانًا للمواطنين. المنتج العماني محارَب من قبل التجار ومن قبل أصحاب القرار. سعر البصل الهندي للكيلو 250 بيسة، واليمني 180 بيسة، أما المنتج المحلي لم يعطوني حتى 140 بيسة للكيلو! من الأفضل أن أقوم بتوزيعه لا بيعه وأبخسه، ثم يقومون ببيعه أكثر على المواطن والسكان. التاريخ 9/6/2025 الساعة 11:10 صباحًا. الموقع خلف نادي النصر مقابل مطعم الرباط قديم". انتهى. من مفارقات الصدف أنني مساء هذا اليوم الأربعاء 18 يونيو، وقبل أن تقفز فكرة هذا المقال إلى ذهني، اتصل بي أحد الأصدقاء وهو من أصحاب إحدى هذه المزارع، وأخبرني بأنه في ثمريت، طلع للتو من اجتماع رسمي مثير هناك بخصوص عقود انتفاع هذه الأراضي، وسيتجه من هناك إلى مزرعته بالنجد، فيما إذا أردت الالتحاق به لقضاء يومين هناك في المزرعة، لأنه يعرف مدى حبي لذلك؛ فلحقت به لأنني فعلًا كنت أريد أن أعرف ما تمخض عنه هذا الاجتماع المثير. وهناك، اطلعني صاحبي على أنهم أُبلغوا بأن أمامهم فترة شهر فقط لا غير لتوقيع عقود الانتفاع، التي كانوا قد حُددت لهم فيها مسبقًا فترة سماح لمدة خمس سنوات، يلتزمون بعدها مباشرة بدفع إيجار للأرض بمبلغ 50 ريالًا للفدان الواحد للمئة فدان الأولى، و5 ريالات لما زاد عن ذلك من مساحة، أي أن من استزرع 100 فدان يتوجب عليه أن يدفع 5 آلاف ريال سنويًا. إعلان البصل أعلاه يشرح ذاته؛ بل ويشرح معاناة هؤلاء المزارعين المخلصين من شبابنا، الذين لا يحتاج بدورهم لشرح أكثر؛ فهي قديمة، ومع ذلك لا زالوا مستمرين رغم كل الصعوبات والمعوقات، ولكن لا نرى ضيرًا من التكرار، فالأمر وأهميته يستدعيان ذلك. هؤلاء يعتبرون أبطالًا بحق، ومشكلاتهم ليست بجديدة على أحد، ومستمرة من أكثر من 30 عامًا؛ بل ناهز بعضها الأربعين عامًا، وقد قيل وكتب عنها الكثير، وشخصيًا كتبت عنها قديمًا عدة مقالات في صحف إلكترونية ووسائل تواصل، ولكن لا حياة لمن تنادي. هل نرتضي هكذا مصير لهؤلاء الشباب المكافحين، وبعد أن أصبحت منتجاتهم تتفوق جودةً على المستورد، وتغطي أسواقنا من مختلف أجود المنتجات؛ بطيخ، بطاطس، شمام، بصل أحمر، رُطب، وحتى القمح، وقائمة تطول من منتجات نعرفها جميعًا بالاسم بأنها منتجات مزارع نجد ذات الجودة العالية، الذين جربوا وثابروا ونجحوا بجدارة في انتخاب مزروعات داعمة لأمننا الغذائي. أعداد هذه المزارع يزيد على الألف مزرعة، كانت مجرد سيوح جرداء، حوَّلها هؤلاء الأبطال بهممهم العالية وجهودهم الجبارة وأموالهم الخاصة إلى جنانٍ خضراء وارفة الظلال وسط الصحراء، منهم من كان مقتدرًا وصرف من أمواله، ومنهم من اضطر لبيع كل ما يملك لذلك، ومنهم من توقف، ومنهم من لا يزال ينتظر. صحيحٌ سمعنا عن مزارعين في بعض الدول المعروفة بأنها زراعية بامتياز، أنهم يعدمون بعض الإنتاج للمحافظة على استقرار سعره، ولكن هيهات لشبابنا فعل مثل ذلك ولو كانت بهم خصاصة، وبالتالي وزعوا إنتاجهم بالمجان، وهذه ليست حالة نادرة؛ بل هناك العديد منهم نعرف بعضهم بالاسم أو سمعنا عنه، وما صاحب هذا الإعلان أعلاه إلا واحدًا منهم. يشكو هؤلاء المزارعون، وهم ما هم عليه من مصاعب، تتمثل في بُعد مواقع مزارعهم عن الأسواق، وقساوة الطقس هناك، بالإضافة إلى معيقات أخرى عديدة، ليس أقلها ارتفاع أسعار الكهرباء عليهم، والآن يأتي إنذارهم فجأة وقسريًا بما كانوا يخشونه، وهو تحديد مدة شهر لهم لتوقيع عقود انتفاع لمزارع كانوا قد عمّروها واستزرعوها واستقروا بها استقرارًا مطمئنًا لعشرات السنين، وبعضهم قد ورثها من أب أو حتى جد، ويحافظون على هذا الإرث إكرامًا لذكرى موتاهم، برغم صعوبة ذلك. علمًا بأن القواعد العامة شرعًا وقانونًا تعتد بوضع اليد على الأرض إذا استمر لمدة زمنية دون أن ينازعه عليها أحد من الغير، فما بالنا إذا كان هذا الغير هو حكومتك، وأن الأمر يتعلق بتحقيق غاية سامية، ألا وهي الأمن الغذائي للبلد، ناهيك عن جوانب أخرى أخلاقية وإنسانية للموضوع. هناك جانب آخر مهم في الأمر، كان أولى وأجدى تحققه في حقهم من سنين، ولكن ذلك لم يحصل، ويتمثل في دور الجهات الرسمية المختصة بالزراعة المفترضة في كل دول العالم لمزارعيها، من حيث إرشاد هؤلاء المزارعين فيما يستحسن أن يزرعوا في كل موسم حسب دراسة السوق، وكذلك تهيئة التسويق لمنتجاتهم، أسوة بما كانت عليه الهيئة العامة لتسويق المنتجات الزراعية سابقًا، التي كانت تستقبل منتجات المزارعين وتشتري منهم وتقوم بدورها بالتسويق داخل وخارج البلد، والتي بعد إلغائها للأسف الشديد اضطر أهلنا من المزارعين لهجر مزارعهم وتأجيرها للمُزارِع الوافد، الذي كان يعمل لديهم أساسًا فيها؛ فالمُزارِع ليس تاجرًا بطبعه. إلى جانب ضرورة حمايتهم من المنتجات المستوردة المنافسة مع وجود المحلي في موسمه. إن توزيع هؤلاء المزارعين لمنتوجاتهم بالمجان، لو توفرت لهم على سبيل المثال معدات حصاد وفرز وتغليف حديثة، ولو بالإيجار غير الهادف للربح الكبير، سيمكنهم ذلك لا شك من تقليل الفاقد من إنتاجهم، وبالتالي مع عوامل أخرى تقليل كلفة المنتج، وبالتالي يمكنهم بيعه ولو بسعر أقل مع تحقيق هامش ربح. وموضوع البصل (ينطبق على القمح أيضًا) ليس إلا على سبيل المثال لا الحصر، أيضًا فيه فاقد لديهم بنسبة 20% على الأقل نتيجة تقطعه أو خدشه وعدم إمكانية بيعه، وذلك بسبب المعدات التقليدية البسيطة المتوفرة حاليًا، أو الحصاد اليدوي المكلف، والذي يتطلب وفرة كبيرة في العمالة غير المتوفرة، مع أجور مرتفعة، وتعرضه للفساد لبطء وطول فترة الحصاد مع حرارة الجو، وهذا ما يحدث حاليًا مع نسبة فاقدهم الكبيرة. كذلك إعفاء البذور والأسمدة والمبيدات من الضريبة والقيمة المضافة أصبح ضرورة لا بد منها أيضًا لهم في سبيل النهوض بالزراعة والأمن الزراعي. عوامل كثيرة لا يمكننا حصرها هنا في هذا المقال القصير تراكمت بدلًا من أن نعمل على حل ولو بعضها مع الزمن، لأنها ستعمل دون شك على تقليل تكاليفهم في الإنتاج، وأصبح هؤلاء المزارعون في أمسّ الحاجة اليوم للوقوف بجانبهم، لا إضافة عراقيل ومعيقات أمامهم، وذلك حتى لا نرى قريبًا، لا سمح الله، مزارع نجد وقد هُجرت، وحل الوافد بها كما حصل في مزارع المدن، أو قد أصبحت أثرًا بعد عين، أو أعجاز نخل خاوية. نداء إلى كل جهات الاختصاص، وكل مسؤول وذو علاقة بصورة أو بأخرى في أمر مزارع نجد ظفار وأصحابها، مراعاة جوانب عديدة تراكمت عليهم مع الزمن، وهم في أمس الحاجة للوقوف معهم، ولو لخاطر أمننا الغذائي حاليًا ومستقبلًا. ومع تقديرنا وشكرنا للجهود التي تمخضت أخيرًا، وبعد طول سنين، من الإعلان عن إنشاء المركز المتكامل لتجميع وفرز وتسويق المنتجات الزراعية في النجد، والمتوقع استكماله في أبريل 2026، إلا أن الكثير من هؤلاء المزارعين لا زالوا لا يخفون توجسهم من حيث إن الشركة لن تقوم بالشراء منهم مثلما كانت عليه الهيئة سابقًا؛ بل ستقوم بالتسويق فقط، وإنها شركة ربحية في الأساس، ستتعامل بمنطق الربح والخسارة. وكنا نتمنى من هذه الشركة، قبل أن تتدخل وزارة الإسكان من استدعائهم وإنذارهم قسرًا بالتوقيع على عقود الانتفاع، أن تجلس معهم وتطلعهم على خططها وأهدافها لتطمئن قلوبهم، وأنه سيكون لها دور واضح، ليس باستقبال وتسويق المنتجات، بل بتزويدهم بالإرشادات والنصح فيما يزرعون، والكميات المتوقع استيعابها في السوق في كل موسم. وعلى المزارعين أيضًا، بدورهم ممثلين في جمعيتهم، تزويدها بالمعلومات الدقيقة حتى تتمكن من استقصاءاتها، وانعكاس ذلك إيجابًا على الجميع، ونتمنى لها التوفيق والسداد. لقد أصبح وجود قانون ينظم هذه الأراضي، أسوة بقانون الإسكان الريفي، ضرورة ملحّة ليعرف الجميع ما له وما عليه، فنحن أصبحنا دولة قانون. لا نعرف الهدف من تحديد 50 ريالًا إيجار الفدان للمئة فدان الأولى، و5 ريالات فيما زاد عن ذلك لهذه الأراضي الزراعية. نحسب أن مبلغ 50 ريالًا مُغالى فيه كثيرًا، وكان من المناسب، تقديرًا لكل ما تقدم، أن يُحدد المبلغ بـ5 ريالات للفدان لكل المساحة دون تفريق بين المساحات. أما عن فترة السماح الحالية من الإيجار لمدة 5 سنوات، فإنها تعتبر معقولة. تبقى جانب لا يقل أهمية، وهو إمكانية تمليك ولو جزء من هذه الأراضي للذين استمروا في زراعتها لسنوات طويلة، تشجيعًا واطمئنانًا لهم، فقد تعلقت آمالهم بها، وكلنا ثقة في حكومتنا الرشيدة التي عودتنا على كرمها، ونحن في ظل القيادة الحكيمة لسلطان التجديد، حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله وأبقاه لعُمان وشعبها.

دوام الحال من المحال
دوام الحال من المحال

جريدة الرؤية

timeمنذ 6 أيام

  • جريدة الرؤية

دوام الحال من المحال

سعيد بن سالم البادي دوام الحال من المحال حكمةٌ تتجاوز جغرافية المكان وحدود الزمان تتردد على ألسنة النَّاس، جملة قصيرة في بنائها الحرفي لكنها حكمة عميقة في مضمونها تختزل جوهر التغيير في الحياة من حيث استمرارية الأحوال على ما ولدت عليه، هذه المقولة العربية الأصيلة، التي تعني حرفيًا أن استمرارية الحال على ما هو عليه مستحيلة فهي ليست مجرد عبارة تُقال، بل هي فلسفةٌ الحياة التي تعلمنا أن كل شيء في الوجود خاضعٌ للتغيير والتحول سواء لأحسن مما وجد عليه أو لأسوأ مما كان عليه في بداية وجوده. إن هذه الحكمة تذكرةٌ بأن الثبات الوحيد في الكون هو التغيير ذاته وأنه حتمية كونية كما أنها تجسد فهمًا عميقًا لطبيعة الوجود فالكون في حركةٍ دائمةٍ، والكواكب تدور، والليل يتبعه النهار والفصول السنوية تتعاقب، وكل كائنٍ حيٍّ يمر بمراحل النمو والازدهار والضعف والقوة؛ فهذه الديناميكية قاعدة تحكم كل ما حولنا في الوجود. كما تُعد هذه الحكمة مصدر إلهامٍ للتعامل مع تقلبات الحياة فالسعادة لا تدوم إلى الأبد، وكذلك الحزن قد يتبعه سرور والنجاح قد يتبعه تعثر، والضعف قد يتحول إلى قوة فإدراك هذه الحقيقة يجب أن يمنح الإنسان منظورًا متوازنًا، فلا يغرق في بحر اليأس عند الشدائد، ولا يطغى عليه الغرور عند الرخاء. وهذا يذكرنا بقول الإمام الشافعي- رحمة الله عليه- في هذه الأبيات المنسوبة إليه: الدهر يومان ذا أمن وذا خطر // والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر فالبيتان يلخصان فلسفة عميقة حول طبيعة الزمن والحياة فهما يدعوان إلى الواقعية والاتزان في التعامل مع الأحداث وتقلبات الأيام والحياة؛ فالسعادة لا تدوم، وكذلك الشقاء وعلى الإنسان أن يكون مستعدًا لكلتا الحالتين وأن يتعلم التعامل مع ظروف الحياة المختلفة بحكمة وفي ذلك دعوة التكيف وعدم اليأس عند الشدائد، وعدم الغرورعند الرخاء. فكما تجد حكمة دوام الحال من المحال وأبيات الشافعي صدىً في العديد من جوانب الحياة كالأزمات الاقتصادية والازدهار والصعود والهبوط في الأسواق وكذا في السياسة فالحكومات في تغير دؤوب ، والأنظمة تتحول فلا توجد قوة سياسية تدوم إلى الأبد دون تغيير أو تحدٍ فإنا نجد ذلك ينطبق على الكيان الصهيوني الغاصب لأرضنا فلسطين المحتلة التي يعيث فيها فسادًا وقتلًا للأبرياء الذين يجاهدون لأجل استرداد وتحرير أرضهم السليبة فإن هذا الكيان لا محالة زائل كما بشرنا به الله تعالى في نصوص القرآن الكريم ويجب علينا أن نُوقن بهذه الحقيقة القرآنية التي تحتم تأكد زواله طال عمر هذا الكيان أو قصر وعلينا أن نثق بأنَّ الله سيغير الأحوال وسينصر المسلمين مهما علت وتكبرت إسرائيل فالإيمان الراسخ بقدرة الله تعالى على تغيير الأحوال ونصرة عباده المؤمنين هو الركيزة الأساسية التي يجب أن نستند إليها في مواجهة التحديات الراهنة، لا سيما في ظل ما نشهده من جبروت وتكبر الكيان الإسرائيلي. وقد شاهدنا تاريخيًا أن كل قوة تكبرت وتجبرت وظنت نفسها فوق كل حساب، كان مصيرها الزوال. وإسرائيل ليست استثناءً من هذه القاعدة الربانية. فمهما علت وتكبرت، فإن نهايتها السقوط والزوال إلى مزبلة التاريخ كغيرها من القباب التي ظنت أنها ستطاول السماء وهم يعلمون ذلك الزوال ويتحدث عنه علماؤهم والمفكرون منهم. وهذه سنة الله في الكون دلت عليها آيات القرآن الكريم وسار عليها التاريخ البشري. فمهما بلغت قوة إسرائيل وتعاظمت سطوتها وعزتها، فإنها تبقى في نهاية المطاف كسابقاتها قوة بشرية محدودة، لا تقف في وجه إرادة الله القاهِرة. فتاريخ الأمم والشعوب يشهد على أن الدوائر تدور، وأن العزة والذل لا يدومان لأحد. فكثير من القوى التي بدت عاتية في زمنها قد انهارت وتلاشت، بينما بقيت الشعوب المؤمنة صامدة بفضل توكلها على خالقها والله سبحانه وتعالى بيده مقاليد السماوات والأرض يورث الأرض لمن يشاء، وهو القادر على قلب الموازين في طرفة عين فإن وعده بالنصر للمؤمنين حق، وقد تجلى هذا في كثير من المواقف الحاسمة في تاريخ الإسلام وفي المواجهات بين الحق والباطل. وحقيقة زوال إسرائيل تثبتها حقائق كثيرة منها نصوص القرآن الكريم فيرى بعض الباحثين والمفكرين مثل الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه أن القرآن الكريم يشير إلى زوال إسرائيل في عام 2027. وهناك كتب نُشرت مثل "زوال إسرائيل 2022، نبوءة أم صدف رقمية". ومن الحقائق التي تثبت زوال إسرائيل أيضًا النبوءات التاريخية السائدة بين الإسرائليين أنفسهم وتداولها بينهم والتي تشير إلى أن أي كيان سياسي يهودي لم يستمر لأكثر من 80 عامًا في التاريخ وهو ما يثير المخاوف في إسرائيل لا سيما وأن عمرها الغاصب لفلسطين قد تجاوز الـ 75 عامًا من تأسيسها في عام 1948. كما يدرك كثير من الصهاينة أنفسهم قبل إقامة الدولة الغاصبة أن حلم المشروع الصهيوني قد يتحول إلى كابوس عليهم في نهايته وهو أمر حاضر في الأدبيات الإسرائيلية ونرجو من الله أن يكون ذلك قريبًا بإذنه تعالى. وقد يرى البعض أن موازين القوى المادية تميل لصالح إسرائيل، وقد يصاب البعض باليأس أو الإحباط. ولكن الإيمان الحقيقي يتجاوز هذه النظرة السطحية. فنحن كمسلمين نؤمن بالغيب، ونعلم أن هناك تدبيرًا إلهيًا أعلى من كل المخططات البشرية. الصبر الجميل والثقة المطلقة بأن النصر قادم لا محالة هما من أهم الأدوات التي يجب أن نتسلح بها، ولكن يجب أن يكون الصبر مقرونًا بالعمل الجاد، والسعي الدؤوب، والأخذ بالأسباب المتاحة والعمل على بناء القوة التي تجعل العدو يهاب الأمة الإسلامية. ومن الأدوات التي يجب أن نعتمد عليها أيضًا هي بناء قوتنا بأنفسنا وأن نعمل على صنع السلاح في مصانعنا وبأيدي أبنائنا وكوادرنا التي تجيد المهن والتصنيع والعلوم والتكنولوجيا التي تعيننا على الاعتماد على الذات ولا نركن إلى الاعتماد على الغير من عدونا الذي لا يرسل لنا إلا الفتات من الأسلحة المنتهية صلاحيتها وغير قابلة للاستعمال بالنسبة له فبذلك نستطيع أن ندافع عن أنفسنا من منطلق القوة والتمكين والثقة بالذات. ولنا خير المثال في الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المواجهة الحالية التي تدور بينها وبين هذا الكيان الغاصب، فلو لم تعتمد الجمهورية الإسلامية على ذاتها في تصنيع الأسلحة وتوفير التقنية التي تحتاجها، لما دخلت في المواجهة بكل عزة وقوة وتفوق واقتدار.

المعلم العُماني.. من صمته يولد القادة ومن ظله تُبنى الحضارات (2-2)
المعلم العُماني.. من صمته يولد القادة ومن ظله تُبنى الحضارات (2-2)

جريدة الرؤية

timeمنذ 6 أيام

  • جريدة الرؤية

المعلم العُماني.. من صمته يولد القادة ومن ظله تُبنى الحضارات (2-2)

د. عبدالله بن سليمان المفرجي في الجزءِ الأولِ من هذه الملحمة الحضارية، تأمَّلنا معًا في أسرارِ عظمةِ المعلمِ العُمانيِّ وبصيرتِهِ النافذةِ التي تمزجُ بين نظرياتِ التعليمِ الحديثةِ وقيمِ الأصالةِ العُمانيةِ. والآن نواصلُ رحلتنا في الجزء الثاني من هذه الملحمة الحضارية، نستكمل رحلتنا مع المعلم العُماني، ذلك المهندس الحقيقي للنهضة وصانع الأجيال، الذي يحمل في قلبه أمانة المستقبل وفي عقله رؤية التجديد، بغية استكشافِ هذه الشخصيةِ الفريدةِ التي تُشكِّلُ، في صمتٍ وتواضعٍ، مستقبلَ الأمةِ وتصنعُ قادةَ الغدِ، الذي يحملُ في قلبهِ أمانةَ الأجيالِ، وفي عقلهِ رؤيةَ التجديدِ. يتميز المعلم العُماني ببصيرته النافذة التي تمكنه من النظر إلى الواقع بعين نموذج (SWOT)، فيميز بثاقب فكره بين القوة والفرصة، وبين الضعف والتهديد. ولكن عظمته لا تتوقف عند حدود التشخيص، بل تتجاوزها إلى ذُرى التخطيط الاستراتيجي معتمدًا على نظرية لين في ترشيد الموارد وتجويد الأداء، متبنيًا قاعدته الذهبية: "افعل الكثير بالقليل، ولكن بذكاء وإتقان واقتدار". يدير المعلم العُماني ذاته كما يُدار المشروع الناجح، ويراجع نفسه بصدق وتجرد مفتوحًا نافذة جوهاري على مصراعيها ليرى صورته الحقيقية في مرآة الآخرين، ويكشف بشجاعة نادرة ما خفي عنه. فالعظمة في مدرسته ليست في أن يعرف، بل في أن يعترف بلا خوف، وأن يُكمل ما ينقصه من نفسه قبل أن يسأله من غيره. وفي خضم هذا كله، لا ينسى المعلم العُماني أن الإنسان كيان مزدوج من عاطفة وعقل، فكما يخاطب الدماغ بمنهجية العالِم، يلامس أوتار الضمير برقة الشاعر. وكما يُبهر بالمنهج والدليل، يُنصت للحلم والوجدان، ويصغي بأذن رحيمة لهمس الطالب الخافت وصمت المتعلم الحائر وانكسار الخجول المتردد وضجيج المتردد المضطرب، فيحتوي الجميع بقلب ملؤه الرحمة والفهم. هكذا هو المعلم العُماني، الراعي الذي لا يصرخ في قطيعه، بل يقوده بهمس البصيرة ونور الحكمة، ويرعاه بدفء الحب وسخاء الإحسان، مستلهمًا في ذلك سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. فهو وريث أولئك العظماء، يحمل شعلتهم ولكن بلسان العصر ولغة التقنية الحديثة، مع الحفاظ على قلادة القيم الخالدة التي لا تبلى. من ينظر إلى المعلم العُماني في قاعة تدريب، يدرك أنه يشهد جسرًا فريدًا يصل بين زمنين متباعدين: زمن الجذور الراسخة وزمن الأجنحة المحلقة نحو المستقبل. فهو حارس الذاكرة وصانع الغد، ينسج من خيوط الماضي العريق قماشًا للمستقبل المشرق، ويجسر الهوة بين تراث ينبض بالحكمة وعصر يعج بالتحولات المتسارعة. من بين يدي المعلم العُماني يخرج جيل متوازن، يستطيع أن يقف بقدمين راسختين في أرض الهوية، وينظر بعينين متفتحتين إلى آفاق العالم. جيل يُتقن لغة العصر دون أن يفقد صوته الأصيل، ويمتلك أدوات التقنية المتطورة دون أن يستعبده سحرها الخادع. يستلهم المعلم العُماني من دراسات الذكاءات المتعددة لجاردنر مدخلًا لاكتشاف المواهب المدفونة في صدور طلابه، فينظر إليهم نظرة شاملة متكاملة، لا يقيمهم من زاوية الذكاء اللغوي أو المنطقي فحسب، بل يستكشف فيهم ذكاء الجسد والإيقاع والطبيعة والتأمل واللون والنغم والاجتماع، فيفتح لهم أبوابًا للنجاح لم تكن الأنظمة التقليدية لتراها. وحينَ يدخلُ العالمُ عصرَ التعلّمِ الرقميِّ المفتوحِ (MOOCs)، يقف بحكمةِ المتأمّلِ المتبصّرِ، فلا ينجرفُ معَ تيّارِ الانبهارِ العابرِ، ولا يغلقُ بابَ التجديدِ بحجّةِ المحافظةِ. بل يُمسكُ بميزانِ الناقدِ الخبيرِ، فيأخذُ ما ينفعُ ويدعُ ما يضرُّ، ويطوِّعُ التقنيةَ لبناءِ منظومةٍ تعليميّةٍ متفرّدةٍ تحملُ بصمةَ عُمان الثقافيّةَ وروحَها الأصيلةَ. في حين تنشغل الأنظمة التعليمية المعاصرة بسباق المهارات التقنية، ينظر المعلم العُماني بعين البصيرة إلى ما هو أعمق: إلى بناء ضمير يقظ، وفطرة نقية، وإرادة صلبة لا تنحني أمام إغراءات الزيف والتضليل. فيستحضر في منهجه التربوي نظرية كولبرج للنمو الأخلاقي، فينتقل بطلابه من مرحلة الخوف من العقاب، إلى مرحلة الالتزام بالمعايير الاجتماعية، وصولًا إلى أسمى مراتب النمو الأخلاقي: الالتزام بالمبادئ الإنسانية السامية، والقيم الكونية النبيلة، المتناغمة مع قيم الإسلام العظيمة. حين يواجه المعلم العُماني التحديات التي تعترض مسيرته، يستحضر نظرية الصمود النفسي التي صاغها نورمان جارميزي ، فلا يراها عقبات محبطة، بل فرصًا للتعلم والنمو. ويدرك أن الصمود ليس مجرد القدرة على تحمل الضغوط، بل هو القدرة على التكيف الإيجابي في مواجهة الشدائد، والنهوض من كبوات الحياة أكثر قوة وحكمة. وبهذا الفهم العميق، يعلم طلابه أن الفشل ليس نهاية الرحلة، بل محطة للتزود بالزاد والخبرة، وأن النجاح الحقيقي ليس في تجنب السقوط، بل في قوة النهوض بعده. لا يكتفي المعلم العُماني بحدس الشعراء، بل يستنير أيضًا بمنطق العلماء، فيقرأ التجارب العالمية في نظم التعليم الناجحة، ويطالع أبحاث جون هاتي في "التعليم المرئي"، ويحلل حجم تأثير المتغيرات المختلفة على نواتج التعلم، ويطبق نظرية التعلم العميق والتفكير النقدي، فيجعل غرفة الصف مختبرًا للأفكار، لا مستودعًا للمعلومات الجامدة. بينما تنشغل نظم التعليم المعاصرة بقياس المخرجات الكمية، ينظر المعلم العُماني إلى البعد الإنساني العميق. يدرك أن المتعلم ليس مستقبلًا سلبيًا، بل كائن معقد تتفاعل داخله الرغبات والمخاوف، والطموحات والإحباطات. فيستحضر نظرية الحاجات لماسلو، ونظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، ونظرية التدفق لميهالي، فيخلق لطلابه بيئة آمنة نفسيًا، ولا ينسى هرم بلوم لقياس مخرجات التعلم، والتي تمكنهم من الوصول إلى حالة "التدفق" – تلك اللحظات السحرية التي ينغمس فيها المرء في العمل بكل جوارحه، فيتوحد مع ما يفعل. يتخطى المعلم العُماني حدود الزمان والمكان، فيجمع بين عراقة المدرسة الشرقية وعقلانية المدرسة الغربية، بين ثوابت الروح الخالدة ومتغيرات الحضارة المتجددة. يغوص في أعماق التراث، فيستخرج منه دررًا لا تبلى، وينظر بعين الناقد المتبصر إلى المنجز المعاصر، فيأخذ منه ما يثري ولا يفقر، ويبني ولا يهدم، ويعلي ولا يخفض. لا يملك المعلم العُماني معجزات الأنبياء، ولكنه يحيي القلوب الميتة بنور المعرفة. ولا يملك سلطة الملوك، ولكنه يشكل عقولًا ستقود الأمم في المستقبل. ولا يملك كنوز قارون، ولكنه يورث الأجيال ثروة لا تفنى: العلم النافع والفكر المستنير. حين يبلغ الليل مداه، وتستكين الأنفاس، وتهجع العيون، نجد المعلم العُماني منحنيًا على دفتر لطالب، أو مطالعًا كتابًا جديدًا، أو متأملًا في تجربة تعليمية خاضها، أو مبتكرًا وسيلة تعليمية ستبهر طلابه غدًا. فهو دائم اليقظة والتطور، لا يركن إلى ما أنجز، بل يسأل نفسه دائمًا: ماذا بعد؟ وكيف أكون أفضل؟ في صمت المعلم العُماني تتجلى عظمته الحقيقية. فهو لا يبهر العيون بضجيج، ولا يخطف الأبصار ببريق زائف، بل يعمل في صمت وإخلاص، كما يعمل النحل في خلاياه، ينتج العسل الشهي بلا ضوضاء. من هذا الصمت النبيل يولد القادة الحقيقيون، ومن ظله الوارف تبنى الحضارات المجيدة. إن المعلم العُماني هو جذر الشجرة لا يراه الناظرون، ولكن الثمار الطيبة تشهد على قوته وعطائه. هو الضوء الذي ينير الدروب لغيره، حتى لو احترق في صمت ليرى الآخرون. هو الصخرة الصلبة التي يقف عليها المجتمع في أوقات العواصف والزلازل. ختامًا، تتجلى الحقيقة ناصعة: أن عظمة الأوطان لا تقاس بثرواتها المادية، ولا بأبراجها الشاهقة، ولا بجيوشها الجرارة، بل بنوعية المعلمين الذين ينحتون في صخر الزمن أجيالًا واعية، وبنوعية التعليم الذي يغرس جذور الهوية ويطلق أجنحة الإبداع. لقد أدرك المعلم العُماني ابن البحّارَ أحمد بن ماجد، والعالِمَ الخليل بن أحمد الفراهيدي، ابنَ الأفلاجِ والقلاعِ، حفيدَ العظماء والنبلاء، أن سر الحياة، بالعطاء فهي حياة ثانية " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ " [الشعراء: 84]" وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ " [ الصافات : 108 - 110 ] . "، فهو يؤمن أن التأثير خلود، وأن بناء الإنسان هو بناء الحضارة. لذلك انطلق في رسالته بيقين المؤمن، وبصيرة العارف، وهمة القائد، وتواضع العظماء. سلام على المعلم العُماني وهو يغرس شتلة العلم في قلب طفل يافع، ويبث روح الثقة في نفس شاب متردد، ويضيء شعلة الإبداع في عقل فتية طموحة. سلام عليه بعدد الحروف التي علمها، والمعاني التي كشفها، والبراعم التي سقاها، والمواهب التي اكتشفها، والعثرات التي أقالها، والقلوب التي وصلها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store