
الأخطاء الإستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية ازاء العراق
الولايات المتحدة قد ارتكبت أخطاءً استراتيجية في تعاملها السياسي الخارجي مع العراق بدءً من موقفها من الحرب بين العراق وايران التي أضعفت القدرات العراقية الشاملة، ومرورا بتوريط العراق بغزو الكويت الذي أنهكته اقتصاديا وعسكريا، وصولا الى احتلاله وتدمير قدراته العسكرية وإسقاط نظامه السياسي وتخريب مؤسساته الأمنية والتنموية...
بعد انسحاب بريطانيا العظمى من كثير من مستعمراتها ومناطق نفوذها، إثر ما تكبدته من كُلف باهظة، ثمن انتصارها في الحرب العالمية الثانية، إذ كانت مثقلة بالأزمات والديون للولايات المتحدة، فضلاً عما لحق بُناها التحتية الاستراتيجية من أضرار فادحة جراء الحرب، دفع بها نحو الانكفاء والتراجع عن دورها ومكانتها كدولة عظمى، وفسح المجال واسعاً للولايات المتحدة، القوة الأكبر، الفتية الصاعدة في سلم القوة، لتحل محلها في أهم المناطق الاستراتيجية المؤثرة في التفاعلات الإقليمية والعالمية.
يأتي من بينها منطقة الخليج العربي والعراق الذي شكلت فيه بريطانيا حكماً ملكياً وراثياً لنظام نيابي. وبات دولة مستقلة قانوناً، بعد دخوله عصبة الأمم بمعونة بريطانيا في العام ١٩٣٢، وكأول دولة عربية تدخل هذه المنظمة الدولية الشاملة.
أخذ العراق يبرز على الساحة الإقليمية كقوة مؤثرة وفاعلة وله علاقات وتفاعلات نشطة على الصعيد الدولي، حصنت الى حد بعيد جبهته الداخلية واستقراره النسبي وظهر كقوة سياسية دبلوماسية بارزة بدخوله أحلاف وتكتلات إقليمية ودولية جعلته نداً شرساً وكفوءاً للقوى الإقليمية كتركيا وإيران.
وبعد انسحاب بريطانيا وفق ما سبق الإشارة إليه، وإحلال الولايات المتحدة منصب الزعامة محلها، أحدثت وبسرعة سلسلة من الزلازل السياسية في المنطقة العربية وبعض من أنظمتها السياسية، إذا ما استثنينا منطقة الخليج العربي لحسابات خاصة متعلقة بالجغرافية والطاقة وعقد الاتصالات والمواصلات العالمية والتركيبة الديمغرافية وحجم السكان، بما يمس استقرارها ويتماهى مع المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وما تعده مرتبطاً بأمنها القومي.
وكانت نتيجة تلك الزلازل السياسية، الإطاحة بالأنظمة الملكية وإيصال حكومات عسكرية، بذريعة أنها ستكون أنظمة قوية تقوى على الحفاظ وتماسك جبهتها الداخلية بوجه المد الشيوعي السوفيتي ومنع عدوى الشيوعية من النفاذ والتأثير في أوساط تلك الدول الشعبية منها والسياسية، وجعل هذه الدول كأحزمة عازلة وجدران صد واحتواء من تمدد الفكر والمد الأحمر. العراق كان من بين هذه الدول، بل من أبرزها، إذ شهد تحولاً، سياسياً سريعاً في العام ١٩٥٨، بعد مصر التي سبقته في العام ١٩٥٢.
الحكم العسكري الذي حكم العراق جاء بإسهام ودعم أمريكي أو بغض النظر عن وصوله، يحمل خطأً استراتيجياً بالغاً وقعت فيه الولايات المتحدة ولا زالت تدفع أكلافه، ولعله السبب المباشر في الانكفاء والتراجع عن تفردها في القيادة العالمية وزعامتها. العراق في ظل حكم العسكر مرّ بفترات من عدم الاستقرار السياسي تخللتها انقلابات وحروب داخلية وخارجية وأعمال عنف وتصفيات ختمت باحتلال وفساد وفوضى، حتى انتهى المشهد السياسي فيه الى دولة هشة فاشلة أخل ضعفها بالأمن والسلم الإقليمي والدولي، بعد أن أخل بالتوازن الإقليمي وأسهم في بروز قوى تهدد أمن ومصالح الولايات المتحدة والغرب ذاته، متمثلة خاصة بتركيا وإيران، اللتان ما كان لها أن يظهرا بهذا الكم من القوة والتأثير والتهديد، لو أن العراق كان قوة ثالثة موازنة.
العراق الذي أجهزت عليه الولايات المتحدة عبر زجه في حروب عبثية عدوانية وغزو غير مبرر، بعد إيصال ودعم شخصية جاهلة غير متزنة (صدام حسين) أوقعها لاحقاً في نفق الأفول والانكفاء، وظهور قوى منافسة لم يتسن لها البروز بهذه السرعة والكثافة كروسيا الاتحادية والصين، لو لم تقدم الولايات المتحدة على ما أقدمت عليه، أو لو أنها دعمت العراق، الذي سنبين أهم مرتكزاته الجيوستراتيجية العالمية وأهميته لأي قوى تبتغي قيادة العالم أو احتلال مواقع متقدمة في سلم القوة والنفوذ والعظمة.
وهذا ما لم يقدر قيمته الفعلية صناع القرار في الولايات المتحدة، ولعلهم قد وقعوا في سوء التقدير وخطأ الحساب، وهو خشيتهم على الكيان الصهيوني من عراق قوي عسكرياً واقتصادياً ومستقر أمنياً، ولو سلمنا جدلاً بصحة هذا الفرض، فإنه ليس أشد خطراً من قوى كبرى، لم تكن كما هي الآن لو كان العراق في مستوى مواز وكفوء لها، كما لم تتعرض مصالح الولايات المتحدة وأمنها لاهتزازات كبرى، لم يكن العراق طرفاً فيها ومن قوى تدعمها وتتحالف معها الولايات المتحدة، كتركيا والسعودية وحتى الكيان الصهيوني الذي يمثل الخاصرة الرخوة في جسد الولايات المتحدة، لما يتسبب به لها من أزمات ومتاعب مزمنة، وما يصيبها من أضرار مادية ومعنوية، والتي ستزداد في المستقل المنظور، و لربما يزج أمريكا في حروب تكبدها أضراراً مبرحة.
وتنبع أهمية العراق الاستراتيجية مما يأتي:
١- العراق من أهم مصادر الطاقة في العالم ويمتلك أهمية عظمى بالنسبة للدول الغربية والشرقية، دول الشمال والجنوب على سواء.
٢- يحتل موقعاً جغرافياً فريداً ومتميزاً، في إطار السياسة العالمية والقوى الدولية المتحكمة فيه، إذ يعد حلقة اتصال بين آسيا بعمقها الجغرافي وأطرافها المترامية شرقاً وأوربا شمالاً، وهو أقصر الطرق الجوية بين قارتي العالم القديم آسيا وأوربا، كما أنه منفتح عليه فواعل دولية راكزه في السياسة الدولية ومُطل أو قريب من عقد وأحواض مواصلات عالمية.
٣- كثافة سكانية معتبرة إذ يبلغ تعداد سكانه زهاء ٤٠ مليون نسمة، يمثل جيل الشباب النسبة الأكبر فيه.
٤- احتواءه على الكثير من المواد الأولية الضرورية في الصناعات الاستراتيجية فضلاً عن أرض زراعية خصبة واسعة يمكن أن تكون سلة غذائية عالمية مهمة تعين العالم في أوقات الاستقرار والأزمات.
٥- يمثل مجالاً اقتصادياً مهماً، في ميدان التجارة واستثمار رؤوس الأموال وتصريف البضائع والسلع كسوق كبير منفتح.
إزاء ما تقدم فإن هذه المكانة الجيوستراتيجية الحيوية التي ينفرد بها العراق، كان على الولايات المتحدة وصناع القرار فيها أن تضعه في عين الاعتبار ومقدمة أولوياتها الاستراتيجية لا العكس، إذ جعلت منه بلداً يعيش حالة من الوهن والفوضى والسيولة السياسية والتشظي المؤسسي التنظيمي.
وتأسيساً على ما تقدم يمكن لنا القول إن على الولايات المتحدة:
١- أن تسعى لوجود عراق قوي آمن، موضع استقرار دولي وإقليمي.
٢- إن هيبة ونفوذ الولايات المتحدة سيتآكل درامياً ويتراجع، مع تصاعد قوة ونفوذ فواعل أخرى إقليمية ودولية، ستطردها أو تزيحها عن قواعد ارتكازها، وتجر منها البعض من حلفاءها، ويمثل استقرار العراق وقوته عنصراً فاعلاً في إبعاد ذلك أو تأجيله، ويتيح لها التفرغ لمواجهة تلك القوى المهددة في مواقع وأماكن مختلفة، تمثل أهمية استراتيجية عليا لها.
٣- ترك هامش من الحرية للعراق في امتلاك قراره، وإدارة شؤونه عبر حكم وطني رشيد، بعيداً عن التدخل أو الاحتلال أو الاستعانة بأطراف تدور في فلك التبعية والفشل، وعدم تملكها القدرة على العمل والرؤية وتقدير مصالح البلد العليا.
وهكذا نخلص الى إن الولايات المتحدة قد ارتكبت أخطاءً استراتيجية في تعاملها السياسي الخارجي مع العراق بدءً من موقفها من الحرب بين العراق وايران التي أضعفت القدرات العراقية الشاملة، ومرورا بتوريط العراق بغزو الكويت الذي أنهكته اقتصاديا وعسكريا، وصولا الى احتلاله وتدمير قدراته العسكرية وإسقاط نظامه السياسي وتخريب مؤسساته الأمنية والتنموية الأمر الذي فسح المجال أمام بروز قوى إقليمية مناهضة له ولها مما جعل الولايات المتحدة تفقد الخدمات الاستراتيجية التي كان يؤديها النظام السياسي العراقي السابق في قضايا التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي وشرق المتوسط لصالحها، الأمر الذي جعل التواجد الأمريكي وتأثيره حالياً، أضعف مما كان قبل عام 2003، بسبب الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها صناع السياسة الخارجية الأمريكية ومنفذوها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 4 ساعات
- صدى البلد
مونيكا ويليم تكتب: مقاربة معضلة السجين .. مهلة ترامب ومأزق التصعيد بين إسرائيل وإيران
في خضم التصعيد المتواصل والمتسارع في الحقيقة بين إسرائيل وإيران، تتعاظم التساؤلات بشأن الدور الأمريكي الموسع في هذه المرحلة المفصلية من الصراع لا سيما بعد توجيه ضربات امريكية بالفعل لثلاثة مواقع نووية إيرانية ، وذلك في ظل واقع بالغ التعقيد يشير بوضوح إلى أن جميع الفاعلين في هذه الأزمة، بلا استثناء، يقفون أمام مأزق سياسي وعسكري عميق، فالوصول إلى معادلة صفرية أو تحقيق حسم مطلق يبدو أمرًا مستبعدًا، نظراً لتداخل الحسابات وتشابك الأولويات والمخاطر. أشعر إن قرار الولايات المتحدة بإعطاء مهلة أسبوعين دون التحرك الحاسم أو الانسحاب الكامل قد يعيد إلى الأذهان أحد أشهر نماذج game theory ، وهو نموذج 'معضلة السجين' (Prisoner's Dilemma)، الذي يوضح كيف يمكن لفاعلين عقلانيين أن يتخذوا قرارات تؤدي إلى نتائج غير مثالية لكليهما بسبب غياب الثقة المتبادلة. في هذا النموذج، يتم القبض على سجينين ويُعزل كل منهما عن الآخر، ويُعرض عليهما خيار: إما التعاون (الصمت) أو الخيانة (الاعتراف). إذا تعاون الاثنان، يُعاقبان بشكل خفيف. وإذا خان أحدهما وصمت الآخر، يُعفى الخائن ويُعاقب الآخر بشدة. وإذا خان الاثنان، يُعاقبان معًا بعقوبة متوسطة. النتيجة أن كل منهما، وهو يفكر في مصلحته الفردية، يميل إلى الخيانة، رغم أن التعاون هو الخيار الأفضل جماعيًا. بتطبيق ذلك على الوضع الأمريكي الإيراني، نجد أن واشنطن لا تثق بأن إيران ستتراجع أو توقف التصعيد، بينما إيران لا تثق بأن أمريكا ستتخلى عن دعم إسرائيل. لذا يميل الطرفان إلى التصعيد أو التلويح به، رغم أن التعاون وليكن المؤقت مثل التهدئة قد يجنّب الجميع الخسائر الأكبر، هذه المفارقة الجوهرية هي ما تعقّد الوصول إلى مخرج سياسي متوازن. وفي هذا الاطار ، أتصور من الضروري محاولة تفنيد واستنباط الأسباب الرئيسية الدافعة لمهلة الأسبوعين وذلك بالأخذ في الاعتبار هذا المعطي البارز ، حيث يبدو أن الرئيس دونالد ترامب يسعى لأن يُسجله التاريخ كرئيس قوي أحدث تغييرات جذرية، حتى وإن كانت مثيرة للجدل. فهو يرغب في أن يُقارن بالرؤساء الذين اتخذوا قرارات حاسمة غيّرت مجرى التاريخ، مثل الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما لإنهاء الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق، لا يتردد ترامب في التفاخر بقراراته الجريئة، وعلى رأسها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 2018، واعتبارها خطوة تثبت أنه الرئيس الذي لا يخضع للضغوط بل يصنع الوقائع بجرأة. وقد أحدث هذا القرار بالفعل تحولًا رمزيًا وسياسيًا كبيرًا، دون أن يكلّف الولايات المتحدة ثمنًا مباشرًا في حينه على المستوى العسكري أو الأمني، لكن، وبحسابات المنطق الأمريكي الأوسع، خاصة من منظور المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، فإن مثل هذه الخطوات لا تخلو من تبعات اقتصادية وأمنية بعيدة المدى. فالتحولات السياسية المفاجئة قد تؤدي إلى توترات إقليمية تتطلب تدخلات أمريكية مكلفة، عبر تعزيز التواجد العسكري. وعليه، يمكن سرد الدوافع المحتملة التي قد تكون وراء قرار الرئيس دونالد ترامب بمنح إيران مهلة زمنية محددة تمتد لأسبوعين، لاتخاذ قرار نهائي بشأن التصعيد العسكري. وتُظهر هذه الأسباب مزيجًا معقدًا من الحسابات السياسية والعسكرية والدبلوماسية، والتي تتمحور بالاساس في ارتفاع احتمالية الخداع والتضليل الاستراتيجي، حيث انه لا يستبعد أن يكون هذا القرار مجرد خدعة مدروسة، هدفها مفاجأة إيران بعمل عسكري خاطف قبل انقضاء المهلة، فترامب معروف بسلوكه غير المتوقع، لذلك تعمّد استخدام هذه النهج لتعظيم أثر الضربة وتفادي الاستعداد الإيراني. الأ انه وبعد ساعات من أطلاق الهجمة الامريكية ، فمن الواضح الآن هو أن الرئيس الأمريكي ترامب دفع الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران يعترف هو نفسه بأنها قد تتصاعد، في ظل وجود مخاطر تتعلق بثلاثة أمور مجهولة أساسية تواجه أمريكا والعالم. وعليه، أن الأمر المجهول الأول هو كيفية الرد الإيراني، وذلك بالنظر إلى أن طهران تمتلك مجموعة من الخيارات، ويرجح في هذا الاطار أن إيران سترغب في الرد هذه المرة بشكل أقوى لمحاولة إعادة بناء قدرتها على الردع، لكن ربما تكون قدرتها على ذلك أكثر محدودية. أما الأمر المجهول الثاني هو ما إذا كانت الضربات الإسرائيلية والأمريكية قد أنهت فعلاً جهود إيران النووية أم ربما سرعتها. والخطر الآن هو أن تؤدي الهجمات إلى أن تقرر إيران أنها بحاجة فعلاً إلى أسلحة نووية ، في حين أن الأمر المجهول الثالث هو: هل هذه هي نهاية الصراع أم بدايته؟ فحتى لو تم تدمير قدرة إيران على التخصيب، فمن غير المرجح أن يتم القضاء على الخبرة الفنية لتخصيب اليورانيوم، وهو ما يشير إلى أن الصراع ربما لم ينته بعد. وبناء علي ما تم تناوله وتفنيده ، سيكون من الضروري التوقف عند تفاصيل الضربة الأمريكية لإيران والتي يمكن توصيفها بأنها تطور متوقع ولكن محسوب، أذ وجّهت الولايات المتحدة ضربة عسكرية ضد إيران، لكنها اختارت السيناريو 'الخاطف او الوسط'، والذي لا يعد انتهاكًا للدستور الأمريكي، إذ يندرج ضمن صلاحيات الرئيس تنفيذ عمليات محدودة، ولا يمثل إعلانًا رسميًا للحرب، والذي يعد بدوره صلاحية حصرية للكونجرس، وبالتالي اكتفى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستهداف دقيق لعدد من المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، مثل نطنز وأصفهان وفوردو، متجنبًا في هذا التصعيد المرحلي توجيه ضربة شاملة واسعة النطاق، سواء منفردًا أو بالشراكة مع إسرائيل، وهو خيار لا يزال مطروحًا ومؤجلاً لحين الضرورة. وعلي هذا الأساس، يمكن تفسير هذا التغير الاستراتيجي في سياسة الولايات المتحدة من زاويتين ، الأولي، محاولة تحقيق توازن داخلي داخل تيار 'أميركا أولاً' (MAGA) الذي يقود السياسة الأمريكية حاليًا، حيث ينقسم هذا التيار بين جناح متشدد يدعو لضرب إيران عسكريًا بشكل حاسم، وجناح آخر أكثر تحفظًا يرى أن التدخل العسكري المباشر ليس في صالح الولايات المتحدة في هذا التوقيت ، بالنظر إلي أن هذا الهجوم قد يشكل مدخلاً لعودة الجيش الأمريكي إلى منطقة الشرق بعد توجه أمريكي سابق لتقليص الوجود العسكري في المنطقة. وقد يؤدي رداً إيرانياً إلى تورط عسكري أمريكي أكبر في الصراع قد يأخذ أشكالاً مختلفة خاصة إذا خرجت الأمور عن السيطرة. الزاوية الثانية، تهدف الضربة إلى اختبار رد الفعل الإيراني: بحيث هل ستقبل طهران بالشروط الأمريكية وتعود لطاولة المفاوضات من موقع أضعف، وهو سيناريو يُعد بمثابة انتصار ضمني لواشنطن حتي وإن لم يكن محل ترحيب من نتنياهو، أم أن إيران سترد بشكل اكثر قوة عبر استهداف مواقع أو قوات أمريكية في المنطقة، ما قد يُسرّع من تحوّل الموقف الأمريكي إلى إعلان حرب رسمي عبر الكونجرس. في المقابل تبدو خيارات إيران في الرد على الضربة الأمريكية شديدة التعقيد ومحفوفة بالمخاطر. فإن أقدمت على الرد المباشر ضد الولايات المتحدة، فإنها بذلك تفتح الباب أمام مواجهة عسكرية شاملة مع قوة عظمى، قد تنتهي بانهيار بنيتها العسكرية والأمنية، أو تدخلها في دوامة طويلة من الفوضى وعدم الاستقرار، على غرار ما شهدته العراق وأفغانستان. أما إذا اختارت التراجع وقبول وقف إطلاق النار دون رد، فإنها ستجد نفسها قد خسرت معظم مكاسبها الاستراتيجية: برنامجها النووي مدمَّر، وقواتها العسكرية منهكة، ونفوذها الإقليمي تراجع بشكل حاد، الأمر الذي يضعف قدرتها على التفاوض لرفع العقوبات المفروضة عليها. وعلاوة على ذلك، فإن الضربة الأمريكية قد تدفع الجماعات الموالية لإيران في المنطقة إلى الرد، غير أن قدرة هذه الجماعات على الفعل باتت محدودة. فإسرائيل تمكنت من إضعاف كل من حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة، فيما تراجعت الميليشيات العراقية عن استهداف القواعد الأمريكية نتيجة الضغوط السياسية والأمنية. وحدهم الحوثيون في اليمن قد يحتفظون بالقدرة والإرادة لشن هجمات ضد المصالح الأمريكية، إلا أن تأثيرهم يبقى محدودًا نسبيًا في تغيير موازين القوى الإقليمية. ختاماً، يبدو أن خيار الضربات الخاطفة جاء لموازنة ضغوط تعرض لها ترامب لمنعه من القيام بأي عمل ضد إيران خشية أن تنجر الولايات المتحدة إلى صراع ممتد لإسقاط القيادة الإيرانية، كما أنه يؤكد ارساء نقاط تركيزه فقط على الخطوات اللازمة لضمان عدم تمكن إيران من تطوير سلاح نووي، لا سيما أن الصراع دخل مرحلة جديدة عنوانها: 'جميع الاحتمالات المفتوحة، والتوقع صعب'. ولايزال يعتمد الأمر علي مدي تأثير وطبيعة الرد الايراني.


ليبانون ديبايت
منذ 11 ساعات
- ليبانون ديبايت
سياسات نتنياهو التوسعية: مشروع "إسرائيل الكبرى" يهدد المنطقة
أكّد الصحافي اليهودي المقيم في ألمانيا، مارتن جاك، أن الهجمات الإسرائيلية في المنطقة غالبًا ما تكون غير شرعية وتندرج ضمن مخطط لتوسيع النفوذ الإسرائيلي تحت مظلة مشروع "إسرائيل الكبرى". جاء ذلك في مقابلة مع وكالة الأناضول تناولت سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأسلوب حكومته في خلق الفوضى واتساع نطاق التهديدات الإسرائيلية في الشرق الأوسط. وقال جاك أن الهجمات الإسرائيلية المتكررة في المنطقة ليست دفاعًا مشروعًا، بل تهدف إلى "التدمير الوقائي" ومحاولة محو الشرق الأوسط ومنع أي إمكانية للدفاع. وأشار إلى أن إسرائيل ترتكب ما وصفه بـ"الإبادة الجماعية" في قطاع غزة منذ تشرين الأول 2023، إلى جانب شنّ حرب واسعة على لبنان بين أيلول وتشرين الثاني 2024، وقصف مواقع في سوريا واليمن، بالإضافة إلى تصعيدها الأخير ضد إيران. وأضاف جاك أن السياسات الإسرائيلية تغذي مشاعر العداء تجاهها، حتى وإن لم تكن موجهة ضد اليهود كأفراد، محذرًا من أن اليمين المتطرف في إسرائيل يعمل على تنفيذ خطط لتوسيع الأراضي الإسرائيلية، بما يتجاوز التصورات الدينية التقليدية لمشروع "إسرائيل الكبرى". شبّه جاك النهج الإسرائيلي بالاستراتيجية الروسية في الشيشان وحلب، معتبرًا أن ما يحدث اليوم هو تدمير شامل بنمط مشابه لما ارتكبته روسيا في هذه المناطق. كما وصف الحالة بأنها عرض فجّ للإفلات من العقاب، حيث تمتلك إسرائيل قوة مطلقة دون رادع، مما يسمح لها بتنفيذ مجازر ضد المدنيين دون أن يواجهها أحد. وأوضح جاك أن إسرائيل تسعى لتجاوز تحقيق حدود "إسرائيل الكبرى" التوراتية، لبناء مركز قوة شبيه بالولايات المتحدة من حيث النفوذ السياسي والقدرات العملياتية. وشدد على أن هذه القوة تُمارس بلا أي احترام للقانون الدولي أو للأسس القانونية التي أُرست بعد الحرب العالمية الثانية. وأشار إلى دور سياسيين يمينيين متطرفين مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في تعزيز هذه السياسات، مؤكدًا أن هذه الشخصيات لا تخفي نواياها بشأن مشروع "إسرائيل الكبرى". وأضاف أن الحديث يتسع ليشمل جنوب لبنان وأجزاء من سوريا ومصر، وهو ما يعكس طموحات توسعية جامحة داخل الحكومة الإسرائيلية. وحذّر جاك من خطورة التصعيد الإسرائيلي الذي تقوده مجموعة من السياسيين المستعدين لإشعال الحروب في كل مكان يعتبرونه تهديدًا محتملاً. وقال أن هذه السياسات المتطرفة تتحدث عن معارك نهائية محتملة مع إيران وتركيا، واصفًا إياها بأنها "شكل من الجنون السياسي"، لا يمت بصلة لليهودية. وختم جاك بالتأكيد على أن ممارسات نتنياهو وائتلافه الحالي تعكس تهورًا سياسيًا غير مسبوق، يشكل خطرًا على استقرار المنطقة بأسرها.

المدن
منذ يوم واحد
- المدن
محمد خضير... طهران/هيروشيما
ماذا يعني طلب اسرائيل بإخلاء "طهران" من ساكنيها (يقدر عددهم بين 10 و15 مليون نسمة). ماذا يعني إخلاء هذه "النسمات" الحيّة من البشر؟ هل يريد مخطّطو الحرب الإسرائيليون تكرار تجربة أميركا في قهر اليابان وإنهاء الحرب دفعة واحدة، وبضربة نووية ماحقة، خلال الحرب العالمية الثانية، العام 1945؟ ما الفرق في المعطيات عند تكرار تلك التجربة الأميركية (وقد يؤيد تكرارها عقلٌ عدوانيّ معاصر بدافع المباهاة والغطرسة والتفرّد على العالم)؟ التجربة الأولى على مدينتي اليابان الكبريين (ولا أجرؤ على تسمية الضربة النووية بكاملها) كانت في نهاية حرب كونية بدَت كأنّها ستستمر في حصاد الأرواح البشرية من جانبي النزاع إلى مدى لا يمكن التكهن بحجمه وآثاره المدمرة (ولا تنسوا أشباح المتنبئين بسقوط الإمبراطوريات وبأيّ شكل من أشكال السقوط). كانت الحرب حينذاك قد رسمَت صورةً أوليّة لنهاية العالم بأسماء مختلفة (منها عنوان رواية ويلز: حرب العوالم) الذي سيعمّ أدبيّات الحروب المستقبلية، ومنها (حرب النجوم) و(القُبب الحديدية) وسواهما من أسماء العقل التدميريّ. كانت تلك الأخيولة حكايةً من اختراع العقل العلمي، بدأت في النهوض في رأس الانسان الخارق (السوبرمان) في أول تكوينه العولميّ. فمِن أيّ رأس ستبدأ الحكاية الخيالية انتفاخها وانفجارها القادم، كزوبعة نهائية؟ وهل ستنتهي حربٌ إقليمية محدودة المساحة بما انتهت إليه حربٌ عالمية، تحت زعامة أميركية؟ لا يكفي إسرائيل أن تصنع قنبلة نووية، بأيّ حجم وبأيّ تخطيط استراتيجي أو تكتيكي لاستخدامها. فالمشكلة في طريقة نقلها وتسليطها على المنطقة المفترضة- طهران الكبرى هذه المرة. أيّ حاملة قاذفات استراتيجية ستحمل (ما لا نقدر على تسميته) ثم إخلاء سبيله ليسقط متمهلاً على هدفه المنتخب؟ ما الوسيلة لحمل (الولد الصغير Little Boy) - ولنجرؤ في القول إن التسمية التجريبية اللاحقة أكثر انطباقاً على التجربة الخيالية الأولى- ثم إسقاطه، غير أن تكون طائرة من صنع أميركي؟ أيّ "الوليدين" أحقّ بأن يتبناه عقلٌ مفرط في تخيّلات إنهاء الحرب؟ حكاية الإخلاء الكلّي للمدن، ما زالت خيالاً يمكن تكراره. كذلك فإنّ تجربة الإنهاء لا تزال أخيولة تلازم عقلاً مخطِطاً على قياس الكوارث الكبرى، وأنموذجها هيروشيما وناغازاكي. أما ما لا يمكن تكراره ونسيانه فهي صورة الفطر المتصاعد لغيمة الانفجار، وما قد يرتسم مثلها من آثار أجساد متبخرة على سطح الأرض. (*) مدونة نشرها القاصّ العراقي في صفحته الفايسبوكية