
أمريكا.. كيان إرهابي فوق القانون الدولي
فعلتها الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، ولن تكون الأخيرة، بالعدوان السافر على دولة ذات سيادة، خارج الإرادة الدولية، وبتجاوز كل مؤسسات المجتمع الدولي، وعلى رأسها مسمّى 'مجلس الأمن' وهيئة الأمم المتحدة.
فعلتها الغطرسة الأمريكية سابقا مع العراق الشقيق واليوم تعيد الكرّة مع إيران، في الأولى بذريعة 'امتلاك أسلحة الدمار الشامل' والتي تبيّن لاحقا أنها مجرد فرية مفبركة لتدمير قوة عربية صاعدة، واليوم بحجة 'منع طهران من تطوير السلاح النووي'.
الكيانات الصهيونية والإرهابية من إسرائيل إلى أمريكا، مرورا بفرنسا وبريطانيا، يملكون كل أنواع الأسلحة النووية والفتّاكة، بينما ليس من حق الآخرين، في منطق الغاب الدولي، تطوير البرامج النووية ولو كانت لأغراض سلمية، وتدمّر خارج قرارات الهيئات الأممية، والتي يتمّ تجاوزها مع أنها أجهزة شكلية وظيفية في خدمة الإمبريالية الاستعمارية الجديدة.
إن سلوك الاحتلال الإسرائيلي وراعيه الأمريكي وحليفه الفرنسي، يثبت مجدّدا أنّ هؤلاء مجرد كيانات إرهابية لا تلتزم بأي قانون دولي ولا عرف إنساني أخلاقي، بل تحرّكها غرائز القوة الحيوانية، وكل شعارات الحداثة المزعومة ليست سوى عناوين تخدير للأمم المستضعفة، كما يثير التساؤل حول جدوى 'مجلس الأمن الدولي' ودوره في ضمان السلم العالمي؟
لطالما صدّعت الولايات المتحدة الأمريكية رأس العالم بدعوى 'الدول المارقة'، وهي تلاحق أنظمة رافضة لهيمنتها الامبريالية، وأداء دور الحارس لمصالحها المحلية والإقليمية، في حين تشهر أمريكا شعارات 'تهديد السلام الدولي' و'انتهاك حقوق الإنسان' و'محاربة الإرهاب' و'أسلحة الدمار الشامل' ذرائع للإطاحة بها، بعد شيطنتها سياسيا وإعلاميا وأخلاقيا أمام الرأي العام الدولي.
غير أن الحقيقة القائمة على الأرض منذ نصف قرن، على الأقل، هي أن أكبر دولة مارقة في التاريخ المعاصر هي الولايات المتحدة الأمريكية وليس غيرها، باعتبار أن المعيار الرئيس في تصنيف الكيانات الدولية هو مدى التزامها بالقوانين الإنسانية وقرارات الشرعية الأممية.
الوقائع تثبت أن أمريكا وراء صناعة الإرهاب الدولي في أكثر من مكان، سواء عن طريق مخابراتها الأمنية، لأهداف تقع على الأجندة الإستراتيجية، أو كردّ فعل على ممارساتها العنصرية والإنجيلو- صهيونية.
أمريكا هي أول دولة تحتقر القانون الدولي، بدعمها للكيان الصهيوني منذ 1948 خارج المواثيق الأممية، مستغلّة نفوذها بامتياز 'الفيتو'، داخل مجلس الأمن، لتعطيل حماية حقوق الإنسان في فلسطين منذ عقود.
أمريكا هي التي ترفض منح الفلسطينيين حقهم الطبيعي في إقامة دولة مستقلة، وفق قرار التقسيم الأممي الجائر نفسه، بل إنها تقف عقبة أمامها حتّى في نيل العضوية الكاملة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الولايات المتحدة هي التي قادت أكبر الانقلابات العسكرية الدموية خارج حدودها عبر كل القارات، لإسقاط أعدائها وتنصيب عملائها، خدمة لمصالحها الحيوية الضيقة، منذ عهد الحرب الباردة، وما زال دورها التدميري في حق الآخرين متواصلا عبر هندسة الخراب والفشل في أقاليم تعدّها معادية لها، مثلما حصل في العراق وأفغانستان، ليس بهدف استئصال الإرهاب ونشر الديمقراطية، كما تدّعي، بل لتكريس احتكار مصادر الطاقة الأحفورية وتأمين ممرّاتها، في ظل التنافس الدولي على منطقة الشرق العربي وبحر قزوين.
لا يمكن حصر مظاهر الانتهاك الأمريكي الصّارخ للقانون الدولي في هذه المساحة المحدودة، بل يكفينا تدليلا على ذلك إشراف الولايات المتحدة، بشكل علني سافر، على كل جرائم الاحتلال الصهيوني ضدّ الإنسانية في غزة منذ 07 أكتوبر 2023 إلى اليوم، من دون أن تأبه بردّ فعل أي طرف في المجتمع الدولي، بما فيه جهاز الأمم المتحدة ومجلسها للأمن.
لقد صدق المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، في كتابه 'الدولة المارقة'، عندما انتقد بلاده بصورة لاذعة، على خلفية تقويضها للديمقراطية في دول عديدة ودعم الانقلابات في مناطق أخرى، واستخدام القوة من دون وسائل الحوار، فضلا عن تجاهلها للقانون وكل الأعراف الدولية وممارسة العنف على نطاق واسع، حتّى إنه وضع تلك السلوكات في سجل واحد مع تاريخ هتلر وستالين.
من جهة أخرى، ينبغي التذكير بأن تشكيلة مجلس الأمن الدولي المنبثقة عن نتائج الحرب العالمية الثانية كرّست، بشكل مطلق، هيمنة القوى المنتصرة، على حساب كل الشعوب والدول الأخرى، بينما ظلّت المواثيق الأممية الصادرة عن الهيئة منذ 1945 مجرّد خطابات ومبادئ أخلاقية غير ملزمة، يمكن توظيفها أحيانا بصفتها مبرّرات قانونية للتدخل الدولي للولايات المتحدة الأمريكية في أي مكان من العالم دفاعا عن مصالحها الخاصة.
يجب أن لا يغيب كذلك عن الأذهان أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بواقعها القائم لا تعدو أن تكون برلمانا عالميا، تطرح فيه المناقشات والشكاوى، لكنها لا تملك أي إلزام قانوني أو قوة لتنفيذ قراراتها التي تبقى مرهونة بموقف مجلس الأمن، بينما قرارات هذا الأخير أيضا محكومة بـ'الفيتو' الممنوح فقط للأعضاء الدائمين.
إنّ هذه الغطرسة العدوانية لن تكرّس الهيمنة الأمريكية المطلقة على مجرى التاريخ الحالي، بل ستدفع بالآخرين إلى الانضواء في تكتلات إقليمية ودولية، وتعجّل بالضغط في اتجاه بناء نظام دولي جديد ومتعدّد الأقطاب، ينتهي فيه جبروت الولايات المتحدة.
كما أنّ هذا السلوك الأمريكي المتجاوز للقانون الدولي، ينبغي أن يدفع بكل المقاومين لامتهان الإنسان، دولا ونخبا وشعوبا، إلى تعرية أمريكا والعمل بكل الطرق على تقويض مصالحها في كل مكان، لأنها تمثّل اليوم رأس الشرور في العالم، موازاة مع ضرورة الانتفاضات الجماهيرية على سفاراتها عبر كل العواصم، حتى تصل رسالة الغضب الشعبي إلى البيت الأبيض.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجمهورية
منذ 24 دقائق
- الجمهورية
موجة جديدة من الهجمات الصاروخية الإيرانية ردا على العدوان الصهيوني
نفذت إيران, اليوم الاثنين, موجة جديدة من الهجمات الصاروخية ضمن عملية "الوعد الصادق 3", ردا على العدوان الصهيوني الذي يطال أراضيها. وأفادت وكالة "تسنيم" الدولية للأنباء بأنه تم اليوم تنفيذ الموجة الواحدة والعشرين من الهجمات الصاروخية الإيرانية على أهداف لدى الكيان الصهيوني. ووفق مصادر إعلامية, فقد شهدت الموجة الـ21 من عملية "الوعد الصادق 3 " ,"استهدافا متزامنا للأهداف العسكرية ومراكز الدعم اللوجستي التابعة للكيان الصهيوني, كأهداف مركزية". وتمت الموجة الهجومية بواسطة صواريخ تعمل بالوقود الصلب والسائل, إلى جانب تكتيكات خاصة لاختراق طبقات الدرع الدفاعي الكثيف والمكلف للكيان الصهيوني. كما أعلن الجيش الايراني, في بيان له صباح اليوم, أنه "تم تنفيذ المرحلتين التاسعة والعاشرة من هجوم الطائرات بدون طيار من أنواع مختلفة برؤوس حربية مضادة" باتجاه أهداف لدى الكيان الصهيوني. وأفادت وكالة "مهر" للأنباء من جهتها, بأن المعلومات التي تم الحصول عليها, أشارت إلى أن معظم الطائرات بدون طيار أصابت الأهداف. ومنذ 13 جوان الجاري, يشن الكيان الصهيوني عدوانا جويا على مواقع عسكرية ونووية ومدنية في إيران, أسفر عن استشهاد عدد من القادة العسكريين والعلماء النوويين البارزين في البلاد, إلى جانب سقوط شهداء وجرحى من المدنيين بينهم نساء وأطفال, حسب ما أعلنت عنه السلطات الإيرانية. وردا على العدوان الذي يطال أراضيها, تطلق إيران موجات من الهجمات الصاروخية, مستهدفة عشرات الأهداف والمراكز العسكرية والقواعد الجوية التابعة للكيان الصهيوني.


إيطاليا تلغراف
منذ 37 دقائق
- إيطاليا تلغراف
الخليج بين حجرَي رحى - إيطاليا تلغراف
إيطاليا تلغراف د. عبد الله العمادي كاتب صحفي والمستشار السابق لوزارة التعليم العالي القطرية الرحى أداة أو آلة تقليدية قديمة لطحن الحبوب، وتتكون من حجرين مستديرين يوضع أحدهما فوق الآخر، ويتم تدوير الحجر العلوي لطحن الحبوب بينهما. تُستخدم الرحى في العديد من الثقافات حول العالم منذ القدم، وربما حتى ساعة الناس هذه، وكانت جزءًا أساسيًا من الحياة الريفية اليومية. مناسبة الحديث عن الرحى هي الحرب الدائرة الآن حولنا بالخليج، التي لو طالت قليلًا فمن المحتمل أن تتحول لحرب طاحنة. فهي منذ أن بدأت بالاعتداء الصهيوني على إيران، والطرفان في دفاع وهجوم. يستخدم كل طرف ما لديه من تقنيات وأسلحة دفاعية وهجومية، فيما العالم إلى اليوم يراقب ويدرس العواقب! لست مختصًا بالتحليلات السياسية ولا العسكرية، فلكل مجال أهله، لكنني ها هنا أروم إلى التركيز على بضع نقاط تهمنا كعرب، لا سيما عرب الخليج، الذين نكاد أو ربما صرنا أشبه بحبوب قمح بين شقي رحى! الاحتلال الصهيوني من جهة، والدولة الإيرانية من جهة أخرى. هذه الحرب التي لو استمرت بضعة أسابيع أخرى، فلا أستبعد أن تجري علينا سُنّة الطحن في مثل هذه الظروف، قبل عمليات العجن والتشكيل، ما لم يتم تدارك هذا الخطر الذي يكاد أن يتجسد على أرض الواقع الخليجي. النقطة الأولى المزعجة، هي كثرة الانتقادات العربية من هنا وهناك لإيران بسبب عدم وقوفها وحمايتها لغزة مما جرى لها، خاصة بعد أن تبين للعالم قدراتها الصاروخية في هذه الحرب، والتي كانت بعضها كفيلة بردع الصهاينة عن الاستمرار في جرائمهم ضد غزة، لو تم استخدامها في وقتها. هذه نظرة غاية في السطحية، ذلك أن اللوم يجب ألا يقع في مثل هذا الوقت العصيب، ثم إنّ اللوم يجب ألا يكون من نصيب إيران وحدها، وهي الأكثر دعمًا لحماس وفصائل المقاومة الفلسطينية من غيرها، بل يجب أن يمتد ليشمل كافة القوى العربية الكبيرة التي تتفاخر بعددها وعتادها العسكري، وهي لم تتحرك قِيد أنملة لنصرة غزة فحسب، بل انقلبت بوصلات بعضها فصارت أدوات تحمي النظام الصهيوني الفاشي بشكل أذهل العالم المنتفض ضد الصهاينة! إذن وقبل أن يزداد لوم وانتقاد إيران لأنها لم تستخدم قواها الصاروخية ضد الصهاينة في غزة، لِمَ لا يقوم المنتقدون بالمثل مع قوى عربية وإسلامية تملك ما تملك إيران من عتاد وأسلحة وأنظمة عسكرية متنوعة؟ النقطة الثانية المزعجة، لم يكتفِ بعض العرب بانتقاد إيران، بل يفضلون الاحتلال الصهيوني العنصري عليها في هذه الحرب. وهذا الفعل، بما فيه من ضيق أفق وسطحية، هو أيضًا سذاجة في الفكر. فكيف يتم تفضيل جسم غريب على المنطقة برمتها، صنعه الغرب الاستعماري ليضمن استمرارية مصالحه، على قَدَر جغرافي تاريخي يتمثل في الدولة الإيرانية؟! لا يمكن لعاقل وبقليل منطق وموضوعية أن يساوي بين غريب هجين استئصالي، جاء من وراء البحار إلى فلسطين، وبين جار مسلم ضارب بجذوره بالمنطقة منذ آلاف السنين. إيران، وإن اختلفنا معها مذهبيًا وسياسيًا في مناطق ومجالات معينة، إلا أنها ضمن دائرة الأمة الكبيرة، ولا يمكن أن يؤخذ مئة مليون إيراني بجريرة أو أخطاء سياسيين، أو أنظمة حاكمة متعاقبة على هذه الدولة، وما تتبناها من مذاهب أو عقائد أو أفكار، والتي غالبًا لا تدوم. إيران منذ عهد الفاروق عمر- رضي الله عنه- حاضرة إسلامية متقدمة، كان لها تأثيرها الإيجابي في الحضارة الإٍسلامية. وعلى رغم أن علاقاتها منذ قيام الدولة الصفوية فيها أصبحت في حالة مد وجَزْر مع دول الجوار الجغرافي، إلا أنها تظل كيانًا مسلمًا متنوع الأعراق والمذاهب، له مواقفه التاريخية من قضايا المسلمين المتنوعة بصورة وأخرى، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفضيل محتل غريب، على هذا الجار المسلم، وإن جار علينا بعض الوقت. الاحتلال الصهيوني زُرع على يد الاحتلال البريطاني، كما يعلم الجميع، ثم تولت رعايته بعدها الولايات المتحدة. هذا النظام في كل الأحوال لا يمكن أن يتعايش مع الوسط العربي المسلم، مهما قامت الأنظمة الحاكمة، رغبة أو رهبة، بالتواصل معها وتطبيع العلاقات. استثمار اللحظة التاريخية الوقوف مع إيران في هذه الحرب، رغم كل الخلافات السياسية معها لدى دول الخليج تحديدًا، خير من الحياد، فإن هزيمة إيران تعني تغول الصهاينة في المنطقة وفعل ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب، وليس من شك في أن هزيمة إيران ستفتح شهيتهم لتكرار التجربة مع قوى إسلامية أخرى، وباكستان هي القوة التالية ثم تركيا، فيما بقية العرب وللأسف، خارج حسابات أولئك الصهاينة، إذ ليس من حاجة لبذل كثير جهد في كسرهم أو ترويضهم، أو هكذا هم في مخيلتهم ومخيلة من يقف وراءهم. ولا أظن أن تلك الصورة جاءت من فراغ، بل من الوضع البائس الذي عليه أمة العرب منذ خروج الاستعمار من المنطقة، إذ هي من بؤس إلى ما هو أشد بؤسًا. أما هزيمة الصهاينة وكسرهم وخروجهم من الحرب دون تحقيق ما يرومون إليه، فهو تعزيز للمقاومة الباسلة في غزة، وإزالة للصورة الذهنية التي تم زرعها في العقلية العربية ووجدانها، من أن كيان هؤلاء المحتلين صلب لا يتزعزع ولا ينهزم، وتعزيز للحراك العالمي النشط الآن ضدهم. أما الخليج العربي فيجب ألا يكون حبوب رحى، ولا أن يترك الحبل لكل من هب ودب أن يقوده إلى حيثما شاء. وهو وقد جاوز الأربعين من عمره قد بلغ أشده، يجب ألا يعيش على الهامش يشاهد ما يجري على مساحته، أو يتورط في خيارات وحروب الآخرين. الحرب الدائرة الآن، ربما تكون فرصة لدول الخليج لإزالة ما أثاره الاصطفاف مع بغداد في الحرب العراقية الإيرانية من ضغائن لدى طهران. مثل هذه الفرص التاريخية لا تتكرر. ولذلك يجب استثمارها بشكل حكيم لرسم قواعد جديدة للتعامل مع القوى المختلفة بالمنطقة، أو إن صح وجاز لنا التعبير، لم لا يكون هذا الخليج هو نفسه قوة معتبرة، له كلمته وتأثيره على مسرح الأحداث؟


إيطاليا تلغراف
منذ 37 دقائق
- إيطاليا تلغراف
السودانيون والبحث عن مخرج
إيطاليا تلغراف نشر في 23 يونيو 2025 الساعة 4 و 49 دقيقة إيطاليا تلغراف د. الشفيع خضر سعيد كاتب سوداني ما أن يلتقي السودانيون في أي مناسبة سياسية أو اجتماعية إلا وكان الهم المسيطر في اللقاء هو كيفية وقف الحرب المدمرة، وكيفية خروج الوطن منها آمنا سالما وموحدا. في هذه اللقاءات يتساءل السودانيون إن كان في الأفق بارقة حوار أو تفاوض يسكت البنادق ويحقق وقفا دائما لإطلاق النار، فهم لا يرون غير الحوار والتفاوض كآلية لوقف الحرب. وكأساس لهذا الحوار وهذا التفاوض، هم يجتهدون ويتفاكرون حول القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية التي يرونها من ضمن الأسباب الجذرية للحرب ويسعون لمعالجات توافقية بشأن كل تفاصيلها حتى يبطل مفعولها. صحيح أن القوى المدنية السودانية لا تملك التقنيات والآليات الضرورية لفض الاشتباك والعراك بين المتقاتلين، لكنها تملك كل القدرة لاجتراح الرؤية الضرورية والمحتوى السياسي الضروري أيضا، كوقود حيوي بدونه تصبح تلك التقنيات والآليات غير ذات جدوى. بعض قطاعات القوى المدنية السودانية، كالشباب والنساء والخبراء والقوى السياسية متحالفة أو منفردة، تقدمت خلال الفترة الماضية بمساهمات قيمة تصب في مجرى صياغة الرؤية لوقف الحرب. لكن ما يضعف من أثرها، أنها أتت في جزر منعزلة، كل قطاع على حدة، في حين المفترض أن تتكامل مع بعضها البعض حتى تتولد رؤية موحدة، ليس بالضرورة في كيان تنظيمي واحد، لتكون بوصلة هادية وقوة دافعة ومحفزة لأي تفاوض أو حوار أو عملية سياسية لوقف الحرب. ولقد استعرضنا هذه المساهمات بالتفصيل في عدد من مقالاتنا السابقة. وخلال الفترة من 15 إلى 17 يونيو/حزيران الجاري، شهدت العاصمة اليوغندية، كمبالا، لقاء تفاكريا لمجموعة من السودانيين الباحثين عن رؤية موحدة لوقف الحرب، ضمت محتلف التيارات السياسية والفكرية، بما في ذلك التيارات الإسلامية الرافضة للحرب، كما ضمن مجموعة من الكتاب والأكاديميين والناشطين في المجتمع المدني، واتسمت بالتنوع من حيث العمر والنوع، ومن حيث الحضور من الأطراف ومركز البلاد. وحسب بعض المشاركين أن لقاء كمبالا ما كان من الممكن أن ينتظم وينجح لولا توافق كل المشاركين وإجماعهم على أن تكون نقطة الانطلاق هي وقف الحرب كأولوية القصوى، والتحدى الأساسي، الذى يدعو للتضامن السوداني الشامل من أجل محاصرة أطراف الحرب ودفعها لوقف القتال وإسكات البنادق، ومن أجل إعادة بناء السودان مؤسساً على الديمقراطية والحرية والسلام والعدالةً، ومستنداً الى هويةً سودانوية تساهم فيها كل عناصر البلاد، ومنفتحةً على العالم. وإذ عزى المشاركون في اللقاء أزمة السودان ضمن جذور وأسباب أخرى الى الفشل فى إداراة التعدد والتنوع، فإنهم عبروا عن أملهم أن يمثل اجتماعهم أنموذجاً لقدرة السودانيين على الحوار وإدارة الاختلاف، سلماً وتراضيا، ثم التوافق على حدود عليا ودنيا، تجعل السودان وطناً قابلاللحياة والنماء. أطلق اللقاء تحذيرا من أن التناسل الحالي للميليشيات المسلحة وتكاثرها فى كل مناطق السودان، لا يهدد بقاء السودان كدولة فحسب، بل وفناء الأمة السودانية بكل شعوبها، مما يدعو هذه الشعوب مجتمعة للتأكيد على الإصلاح الأمني والعسكري نحو قوات مسلحة سودانية مهنية، تعكس في تكوينها كافة قوميات السودان، مستقلة عن أي ولاء إيديولوجي وعن أي انتماء حزبي أو إثني أو جهوي، وتعمل في إطار ديمقراطية ومدنية الدولة وسيادة حكم القانون، بعيداً عن التدخل في الشأن الاقتصادي والسياسي. مع ضرورة إجراء إصلاح جذري في مؤسسات القضاء والخدمة المدنية. كما اتفق المشاركون على أن يكون السودان دولة مدنية ديمقراطية تتأسس على المواطنة، وكفالة الحقوق الأساسية، وتساوي بين جميع المواطنين بمختلف انتماءاتهم الدينية والثقافية والجهوية، وتقف على مسافة واحدة منها جميعا، وتمنع استغلال الدين للكسب السياسي أو لإنشاء مؤسسات سياسية، أو لتبني قوانين تتنافى مع المبادئ المتفق عليها للدولة المدنية الديمقراطية، أو مع العهود والمواثيق الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان. ونوه اللقاء إلى أن التعليم والإعلام والثقافة تأثرت جميعها سلبا بالحرب، وأن النساء من الفئات الأشد تضررا بويلات الحرب، وطالب أن يحشد السودانيون الطاقات القصوى للتصدي لوقف العنف تجاههم، ودعمهم ماديا ونفسيا واجتماعيا عبر منظومات المجتمع المحلي والمجتمع الدولي الطوعي والرسمى، ولكن أيضاً بالمساواة النوعية وضمان حقوق المرأة كاملة في الدولة المدنية الديمقراطية. كما أشار اللقاء إلى المجتمعات الأخرى الأشد تضرراً بظروف الحرب والاشد تأثراً بالبنية غير العادلة للدولة السودانية منذ تأسيسها، وضحايا اختلال قسمة السلطة والثروة والهوية في المناطق المهمشة، ومجتمعات الريف عامة، بمن في ذلك المنتسبون للقطاع التقليدي المطري الزراعي والرعوي، ونساء الريف، ومجتمعات الكنابى والعمال الزراعيين..، مؤكدا على أن هذه المجتمعات ليست مستحقة للإنصاف والتعامل التفضيلي فحسب، بل هم شركاء أصيلون في بناء دولة السودان الجديدة. أكد اللقاء على اعتماد الفيدرالية بوصفها النظام الأمثل لتلبية مطالب السودانيين وتحقيق التنمية العادلة، التي تحرر السودان من نمط الدولة الاستعمارية المؤسسة على الفساد وقهر المواطنين وتشويه إنتاجهم الزراعي والصناعي، نحو دولة وطنية ديمقراطية حديثة مؤسسة على المواطنة المتساوية والعدل الاقتصادي والتنمية المتوازنة، بمثلما هي قائمة على العدالة في قسمة السلطة والفيدرالية المالية. كما دعا الى تبني عقد اجتماعي جديد عبر حوار سوداني شامل يتبنى صيغة للعدالة الانتقالية سودانية تنطلق من ثقافة وموروثات شعب السودان وتستصحب المبادئ الواردة أعلاه، ويحض على التعافي لاستئناف الحياة الطبيعية، ويرسخ أسس عدم الإفلات من العقاب كما وردت فى المواثيق الدولية والتجارب السابقة في المصالحة الوطنية، ويمكن من إنتاج مشروع دستور دائم. ونوه اللقاء إلى أن التدخل الأجنبي بلغ في الحرب الحالية حداً حولنا كسودانيين إلى متفرجين على صراع إقليمي يدور على أرضنا وباسمنا دون أن يكون خيارنا. لكن، لا أحد غيرنا كسودانيين يمكن أن يقوم بحل مشاكلنا نيابة عنا، ولا يمكن دفع أطراف الحرب لوقفها وضمان عدم انفجارها مرة أخرى إلا عبر السودانيين أنفسهم. التالي من حق القراء والمستمعين والمشاهدين معرفة ماذا يجري في الكواليس