جعفر بناهي .. لم يكن أبداً حادثاً بسيطاً
«لقد قتلتَه» قالت الفتاة الصغيرة مرعوبة، وحين تحاول والدتها الحامل تهوين ما حدث: «كان مجرد حادث. ما يكون سيكون، لا بد أن الله جعله في طريقنا»، تجيب البنت خائبة «لا علاقة لله بالأمر». هذا الحوار الوجودي المختصر حصل حينما صدم رجل كلبا في طريق مظلمة فقتله. يزيح الرجل ما بقي من الكلب تحت سيارته ويواصل سيره، ولكن السيارة تعطلت أمام مرآب مغلق، وما رآه هذا الرجل صدفة حسنة لتصليح سيارته يتحول جحيما، فالحادث البسيط – كما وصفته الأم – يغدو كارثة حلت على هذه الأسرة التي تبدو عادية. هكذا بدأ المخرج الإيراني جعفر بناهي فيلمه «حادث بسيط» أو «مجرد حادث» (یک تصادف ساده) الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الثامن والسبعين هذه السنة. وهو ثاني فيلم إيراني يفوز بالجائزة الكبرى في هذا المهرجان الكبير، بعد الفيلم الأيقونة «طعم الكرز» للمخرج عباس كياروستمي قبل ثمانية وعشرين عاما.بعد هذا المدخل الذي يبدو عاديا يحدث كل يوم، ينقلنا المخرج إلى مستوى من التوتر يعطي الفيلم أبعادا تراجيدية، فحينما يدخل «إقبال» الرجل الذي صدم الكلب بساقه الاصطناعية إلى المرآب بحثا عن ميكانيكي يصلح له سيارته، يثير صوت الساق على الأرضية في نفس وحيد المصلّح أسوأ الذكريات، فهذا الصوت الخشبي كان يسمعه يوميا لأشهر عديدة من جلاده في السجن يوم اعتُقل لتورطه في نزاع عمالي، وخرج من أسره بضرر بالغ في كليتيه وعطب أكبر في روحه، فيقرر وحيد الانتقام من جلاده، لذلك يلاحقه ويختطفه ويضعه في صندوق في شاحنته الصغيرة مقررا دفنه حيا في الصحراء، ولكن.. كيف يتأكد وحيد أن هذا الرجل الأعرج هو جلاده السابق، في الوقت الذي لم ير فيه وجهه أبدا؟ والمخطوف يؤكد له أنه مشتبِه فهو ليس سوى رب عائلة بسيط يدعى رشيد وإصابته في ساقه حديثة، كما يتبين من ندبتها.ولأن وحيد ليس مجرما بطبعه آثر أن يقطع الشك باليقين، قبل الحكم على الرجل المحجوز في الصندوق، فبحث عن ضحايا سابقين لهذا الجلاد ممن تعرضوا للتعذيب على يديه في السجن، آملا في أن يجد من بينهم من يتعرف عليه، فاجتمع بائع الكتب سالار بشيفا مصورة الأعراس، وغولي المقبلة على الزواج مع خطيبها علي، وخامسهم حميد المتهور المستعجل على قتل السجان وإنهاء الموضوع، وفي جولة في طهران وضواحيها يسعى كل شخص للتعرف على الجلاد من خلال أي تفصيل يظهر له كالصوت أو الرائحة أو المشية، دون أن يصلو إلى قرار حاسم في هذا الشخص المقيد أمامهم، وإذا كانت قد وقفتْ في وجه وحيد الميكانيكي معضلة أخلاقية حول قتل شخص ليس متأكدا تماما من هويته، فقد وقفتْ في وجوههم جميعا معضلة أخرى: هل الانتقام وأخذ حقهم بأيديهم هو الحل الأنسب، وهل تُواجه الجريمة (التعذيب) بجريمة أكبر (القتل)، ودارت بين المجموعة حوارات تذكرنا بفيلم «اثنا عشر رجلا غاضبا» حيث يناقش المحلفون حق المجرم في الحصول على دفاع حقيقي رغم كل الأدلة التي تدينه. وفي الحوارات التي تجري أغلبها في أماكن ضيقة توحي بالانغلاق كالشاحنة الصغيرة، تتكشف أسباب سجن كل فرد من المجموعة وهي في غالبها ناتجة عن نزاعات عمل، أو احتجاجات ضد الدولة، وحتى عندما تتأكد مجموعة المعذّبين في الأرض من شخصية جلادهم يجدون أنفسهم في متاهة السؤال عن مفهوم العدالة، وهل يحققه الانتقام الفردي، ناهيك عن المشاكل التي تورطوا فيها. وكعادته لا يقدّم جعفر بناهي أجوبة ولا نهاية واضحة، بل يتركها مفتوحة بعد أن وضعنا أمام قضايا وجودية كبيرة، كالانتقام والعدالة والتسامح.معتمدا على الإضاءة الخافتة أو التصوير في الليل – خاصة المشهد الأخير حيث يستجوب وحيد وزملاؤه في السجن سجينَهم إقبال على ضوء مصابيح الشاحنة الصغيرة – ومستثمرا المؤثرات الصوتية فطقطقة الساق الخشبية ليست تفصيلا إذ هي عامل مهم في تعرف الضحايا على جلادهم، استطاع جعفر بناهي أن يبقي خيط التوتر ومعه خيط التشويق مشدودا، تراود المتفرج الحيرة نفسها، التي راودت أبطال الفيلم: هل السجان يجب أن يسقى من الكأس المرة نفسها، التي سقى منها ضحاياه، أم على الضحية أن لا تلبس بدورها ثوب الجلاد، وإلا ما الفرق بينها وبينه؟فيلم «حادث بسيط» غوص في أعماق النفس البشرية، وتصوير واقعي لصراع النفس بين الرغبة في الانتقام، والقدرة على التسامح تعففا، أو خوفا من العقاب، لأن القانون لا يسمح بأخذ الحق باليد، وإلا تحول المجتمع إلى فوضى، وفي هذا الفيلم لم يلجأ جعفر بناهي إلى الرمز، كما في أفلام عديدة له لفضح القمع، بل طالب بما طالب به محمود درويش قاتله «اخرجْ لكي نمشي لمائدة التفاوض واضحينْ كما الحقيقةُ:/ قاتلاً يُدلي بسكَّينٍ/ وقتلى يدلون بالأسماء»، فالمساجين السابقون ليسوا مجرمين، بل هم معارضون سياسيون وجلادهم أداة قمع في يد نظامه، وهم في مواجهة جديدة مع تبدل الأدوار: هم في موقع القوة وهو في موقع الضعف، ومن تفاصيل صغيرة في الفيلم ندرك أن طبيعة السجان لم تتبدل فالقسوة أصبحت طبيعة ثانية له، فمثلا لا يعير اهتماما للكلب الذي قتله، بمرأى من ابنته الصغيرة، بل طبيعة الأنظمة التوتاليتارية نفسها متشابهة، تقوم على القمع والفساد الممنهج والرشوة، التي جعلها بناهي في فيلمه عبر البطاقات الإلكترونية في مفارقة ساخرة، وفي المقابل نجد إصرار الشعب على حريته وتحديه لكل أشكال القمع، وقد طبق المخرج نفسه هذا الإصرار والتحدي من خلال تصوير فيلمه سرا، رغم المنع الرسمي، وكذلك الاستعانة بممثلات من دون حجاب، وإن كنتُ أرى أن نظام بلده قد غضّ النظر عنه قليلا، إلى حد السماح له بالتوجه إلى كان لحضور المهرجان.فيلم جعفر بناهي له جذور في تجربته الشخصية، فقد تعرض للسجن مرتين أولاهما سنة 2010 بتهمة الدعاية ضد النظام، وحكم عليه فيها بالسجن ست سنوات وأطلق سراحه قبل إتمام محكوميته، والثانية سنة 2022 ويومها أضرب عن الطعام حتى خرج من السجن، وكان في حبسه معصوب العينين لا يتعرف على سجانيه، إلا من خلال أصواتهم، تماما مثل وحيد الميكانيكي، لذلك يمكن أن يعتبر فيلم «حادث بسيط» وثيمته الأساسية الانتقام، انتقاما موازيا يقوم به بناهي ضد النظام الذي منعه من السينما عشرين عاما، ورغم المضايقات الكثيرة التي تعرض لها في بلده لم يتوقف يوما عن شغفه بالسينما، وقد راكم الجوائز السينمائية منذ فيلمه الروائي الأول الطويل «البالون الأبيض» الذي فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي قبل ثلاثين عاما. مرورا بفيلمه «الدائرة» الحائز جائزة الأسد الذهبي في البندقية عام 2000، وفيلمه الآخر «تسلل» الذي فاز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 2006، وفيه تناول موضوع مشجعات كرة القدم وتحديهن لكل العوائق التي تحول دون حضورهن المباريات في بلد شديد التضييق على حرية المرأة.ويعد فيلم «تاكسي طهران» من أفلامه المميزة، حيث صوره سرا بكاميرا صغيرة، وكان هو نفسه سائق التاكسي يجوب شوارع العاصمة الإيرانية ويحاور الأشخاص العاديين وقد حاز عنه جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 2015، ولما لم يتمكن من الحضور تُرِكَ مقعده فارغا، وهو ما كان متوقعا أيضا أن يغيب عن مهرجان كان الذي حُرِم من حضوره خمسة عشر عاما كاملا، إلا أن العكس حدث فحضر وألقى خطاب فوزه بالجائزة الكبرى.أثبت لنا جعفر بناهي أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الإيرانية أنه بشاحنة صغيرة وبضعة ممثلين وحوار مشغول باحتراف يمكن تقديم فيلم ليس جيدا فقط، بل ينال واحدة من أرقى جوائز السينما في العالم، ففيلمه لم يكن أبدا «حادثا بسيطا» بل قمة جديدة في السينما الإيرانية تتعب من يريد تجاوزها.شاعرة وإعلامية من البحرين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الانباط اليومية
منذ 2 ساعات
- الانباط اليومية
بلال حماد.. ألف مبروك الزواج
تاريخ النشر : الإثنين - pm 04:51 | 2025-06-23 الأنباط - بلال حماد.. ألف مبروك الزواج يتقدم آل الحاج حسان - الحماد وعلى رأسهم الحاج أبو مبارك حماد، بأجمل التهاني وأطيب التبريكات، إلى ابنهم بلال، بمناسبة زفافه الميمون الذي أقيم في الـ18 من شهر حزيران عام 2025. وقد شهد الحفل حضورًا واسعًا من الأهل والأصدقاء والجيران، الذين شاركوا العريس فرحته، في ليلةٍ ملؤها السعادة والبهجة. ونسأل الله للعروسين حياة ملؤها السعادة والمودة والرحمة، وأن يبارك لهما ويبارك عليهما ويجمع بينهما على خير.


وطنا نيوز
منذ 3 ساعات
- وطنا نيوز
الشرع يدين التفجير الإرهابي بكنيسة مار إلياس
وطنا اليوم:أدان الرئيس السوري أحمد الشرع التفجير الإرهابي الذي استهدف مدنيين في كنيسة مار إلياس في دمشق، مقدّمًا أحرّ التعازي لأسر الضحايا ومتمنيًا الشفاء العاجل للمصابين، مؤكدًا أن الشعب السوري بأكمله أصيب بهذا المصاب الجلل. وفي بيان رسمي صادر عن رئاسة الجمهورية، شدّد الشرع على أن 'هذه الجريمة البشعة' التي طالت الأبرياء تذكّر بأهمية التكاتف الوطني ووحدة الصف، حكومة وشعبًا، في مواجهة كل ما يهدد أمن واستقرار البلاد. وأكد الشرع أن السلطات السورية لن تدّخر جهدًا في ملاحقة الجناة، مضيفًا: 'نعاهد المكلومين بأنّنا سنواصل الليل بالنهار، مستنفرين كامل أجهزتنا الأمنية المختصة لضبط كل من شارك وخطط لهذه الجريمة، وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاءهم العادل.' واختتم البيان بالدعاء لأهالي الضحايا بالصبر والسلوان، راجيًا الشفاء العاجل للجرحى، وسائلاً الله أن يحفظ سوريا من كل سوء.


وطنا نيوز
منذ 3 ساعات
- وطنا نيوز
كأنك ياابوزيد ماغزيت
بقلم عاطف ابوحجر: حدثني صديقي،وقال:كم كنتُ أتمنى أن يكون خوال أولادي أوكرانيون … بيض الوجوه، زُرق العيون، يداعبون الحظ كما تداعب الريح نوافذ الشتاء، ويصنعون من الحب خبزًا دافئًا كل صباح.كم كنت أتمنى أن يكون اسم زوجتي الاوكرانية،اولينا،ويكون اسم عمتي حماتي ،مارينا،وأسم عمي ياروسلاف،وأسم عديلي ديمترو، كان يحلم بزواج يُبنى على العاطفة لا على القرابة، على الشغف لا الشروط، على النظرة الأولى لا على دفاتر العائلات.'لا متقدم ولا متأخر، لا ذهب ولا أثاث، لا غدًا للتعارف، ولا زيارات.' لكن الحظ كما أخبرني لا يأتي حين نطلبه، بل يظهر حين نكفّ عن النداء، يرتدي ثوب المتأخرين، ويوزع أفراحًا ناقصة كأن بينه وبين الفرح ثأرًا شخصيًا. قال لي: الزواج عندنا لا يشبه قصص الأفلام، بل يشبه مسرحية عبثية. الجميع يصفق، وأنا وحدي أؤدي البطولة، لا أعرف النص، ولا حتى المشهد القادم. كم كنت أتمنى أن أتزوج عن حب، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. أخبرني عن فتاة أحبها، كانت له كأنها الحلم، حتى جاء ابن عمها وأنزلها عن الفرس قبل أن يتقدم لها هو. وهنا، كما قال،كان مربط الفرس. شعر والده بالخطر، فقرر أن يسبق الحب بخطوة تقليدية. ناداه وقال: افتح درج الطاولة، فيه دفتر بني صغير. افتح على الصفحة قبل الأخيرة، فيه عشر أسماء زلم عتاعيت، كل واحد أحسن من الثاني، والعشرة عندهم بنات للزواج وكلهم أصحابي. اختار، وأبشر بعزك. يقول لي: استسلمت. مكرهٌ أخاك لا بطل. اخترت رقمًا، فقال لي الوالد: هنا أنت بتعرف تنشّن زي أبوك. هاي بنت زلمة غانم، وأهلها جماعة محترمين،ومريشين، والبنت الجاجة بتوكل عشاها. ذهب هو ووالده لرؤية العروس. كان يرتدي بدلة سكني كروهات وربطة عنق سلفر، ويقول ضاحكًا: لبست اللي على الحبل، كانت آخر موضة وقتها، هكذا قال له صاحب محلات البيك وسط البلد. جلسوا مع أهل العروس، تبادلوا أحاديث ود، حتى قال أحدهم: خلي العريس يقعد مع العروس. دخل غرفة الضيوف،طبعا كان الباب مفتوح، حاول أن ينطقها ولو بكلمة، لكنها فقط كانت تهز رأسها، كأن الكلمات مسجونة في حلقها. قال لي: لدرجة شكّيت إنها خرساء. انتهى اللقاء، وفي اليوم التالي جاء الرد: البنت مش راضية. الصدمة؟ وصفها بكلمة واحدة: انصدمت. أنا اللي بعتبر حالي أحلى شاب بالحارة،الدنجوان،زير النساء،محطم قلوب العذارا انرفضت؟! هزلت… يا للعار. صار يضرب أخماسًا بأسداس، يتساءل: شو بيّ؟ فيّ إشي غلط؟ لكن بعد أيام، رجعت العروس ووافقت، وتم النصيب. ثم قال لي: لأكتشف لاحقًا أني وقعت… وما حدا سمّى عليه. وكم كنت أتمنى لو أصرت على رأيها بالرفض، كنت الآن مكيف، أعزب، لا تزوجت عالعيد، ولا بنيت بيت، ولا انحبست بين أربع حيطان. وضحك وقال: كنت ضليت عزابي، أطلع متى أشاء، وأرجع متى أشاء. بس المنحوس منحوس، ولو علّقوا فوق رأسه فانوس، وحين سألته عن حفل الزفاف، قال: كنت أوزع ابتسامات كأنها بطاقات سحب آلي، لكن بدون رصيد من الفرح الحقيقي. قراري لم أوقعه بالقلب، بل بالبصمة العائلية. وختم حديثه قائلاً: لو عادت بي الأيام، لاخترت وحدتي على زفة لا أشعر بها، لبنيت بيتًا صغيرًا في قلب الحرية، لا في حيّ العتب والمقارنات. كم كنت أتمنى لو نكّد جاهه إلى مدينة كييف العاصمة الاوكرانية، وتتم الأمور على خير، ونصير نسايب، إحنا والأوكرانية. لكن ما فات لا يُستدرك. وقدّر الله وما شاء فعل. وكأنك يا أبوزيد ما غزيت،خالي ثدام فعلاً، نصيحتك طلعت ذهب، وأنا اليوم بشكرلك، وببشرك، لو صار في جائزة للعقلانية، كنت مستحقها عن جدارة!'